يأتي الانتماء للوطن محورا ثانيا لحب الوطن وتحقيق المواطنة الوطنية. فبعد تحقق الاحترام للوطن والحرص على عكس صورة طيبة له سواء من خلال النظام أو السلوك أو الحديث، تأتي مرحلة الانتماء. الانتماء مرحلة ارتباط روحي بين المنتمي والمنتمى إليه.
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة ... وأهلي وإن ظنوا علي كرام
فعندما يصل المرء إلى مرحلة الانتماء تترتب الأولويات وتتناسق المصالح لخدمة الهدف الأسمى وهو المنتمى إليه. وإن من أبرز مظاهر الانتماء الانتساب إلى المنتمى إليه. فالانتماء مراحل حاله في ذلك حال الوطنية، فكل منا ينتمي إلى قبيلة فهو ينسب إليها، وكل منا يأتي من ولاية وتشملها منطقة فهو ينسب إليها، وإطار الوطن العام هو وططنا الكبير فيكون الانتماء للوطن فنحن عمانيون وسوانا كل إلى وطنه ينتمي.
ولقد اختلت بعض جوانب الانتماء عند فئة من البشر فخرجت أطر انتمائهم من أوطانهم إلى قوميات عامة وتوجهات سياسية فنتجت نتيجة لذلك الأنظمة والمسميات فمنها القومية العربية، ومن الشيوعية ومنها الماركسية وغيرها. وهذه في واقع الأصل هي توجهات فكرية، في رأيي وهو رأيي المحض، لم تأت بجديد سوى فتح ابواب للتدخلات الخارجية في شؤون الأوطان الداخلية وعليها، ونحن اذا استقرأنا التاريخ بتمعن واهتمام، فإننا نجد أن عددا من هذه التيارات الفكرية أوجدت حروبا وصراعات ونزاعات بين العديد من الأوطان وفي داخل حدود بعض الأوطان في مسعىً للسيطرة على من سواهم ونُسِيَ في إطارها الانتماء للوطن والحفاظ على منجزاته ومقدساته.
إن الانتماء للوطن يقود الفكر إلى الارتباط بالأرض. والارتباط بالأرض أمر أكبر من التوجهات الفكرية البشرية. فالأرض منها خُلِقنا وإليها نعود ومنها نُخرَجُ تارة أخرى. والأرض هي الحصن الذي نتحصن به والمهد الذي نرتع فيه، وهي الروض النظير الذي نشرب ماءه ونستظل بظله. ونحن بانتمائنا إليه أو انتمائنا إلى توجهات فكرية أخرى نجعل هذا الروض نظرا أو نجعله قاحلا، فالانتماء، وهو رأيي المحض، يجب أن يتخطى كافة التوجهات الفكرية لتضمحل عند أعتاب الوطن.
لقد مر التاريخ الإنساني بمراحل كبيرة أحدثت تغييرا جذريا فيه، فقامت على إثر هذه الأحداث حروب قادت العالم إلى هاوية الانقسام والتشعب والتشتت. لقد كنا فيما سبق اوطانا أكبر من اليوم، وكنا أمما أكبر من اليوم وكان الانتماء حينها للوطن هو ذاته الانتماء للفكر لأن الفكر كان مرآة الوطن المنعكسة عن قيادته، ومفكريه، وعلمائه، وأعيانه، وربما كان منعكسا حتى عن البسطاء من أبنائه. فقد كنا نجد كل من انتمى إلى أمة يعرف دوره استنادا إلى منظومة الوطن أو الأمة التي ينتمي إليها، فكانت دولا عظاما. ولو تاملنا لوجدنا ان الشيوعية، على سبيل المثال، كانت تيارا فكريا مضادا للرأسمالية الطاغية، لكنها بعد ذلك اتجهت اتجاها سياسيا منحدرا كالرأسمالية، فنتج عن خلافاتها مع الرأسمالية الحرب الباردة وسباق التسلح النووي، فكانت مصالح الأوطان ضائعة في مصالح التوجهات الفكرية والسياسية التي إنما نشأت حول شخصيات معينة ذات توجهات محددة. واليوم يدفع العالم كاملا ثمن تلك التوجهات ونسيان الانتماء للوطن أمام درجات سلالمها. فبدلا من أن تقوم أمم على السلم وحب الجوار والتعاون المثمر؛ قامت بدلا من ذلك صراعات على من ينشر فكره بصورة أكبر ومن يدخل في حوزته عددا من الدول أو الدويلات أكبر. فتبلورت قضايا الحروب داخل كل وطن من الأوطان نتيجة لانقسام أهله وانتمائهم إلى توجهات فكرية مختلفة ناسين أو متناسين انتماءهم إلى أوطانهم التي عانت وقاست وذاقت ذل الحياة بأشكالها المختلفة وما لشيء إلا ليتمكن فريق من زرع فكره ونشره بين أفراد المجتمع في إطار أوسع من فكر سواه.
ولم يكن ذلك الأمر نهاية المطاف، بل انتقل ذلك إلى هدم أسوار الوطن الراسخة من الأخلاق والمبادئ والقيم والأصول والعادات والتقاليد، لتحل محلها حريات غير مقيده أذابت فئات المجتمع المختلفة في بوتقات من التشتت الفكري وهو أمر هدفت إليه العديد من التوجهات الفكرية. فمن أجل أن تبقى القيادة في القمة، كان على محركي الخيوط أن يميعوا المجتمع ويشغلونه بقضايا من الضحالة بمكان لا تسمح له بأن يتعمق في الفكر الذي ينتمي إليه أو يجري وراءه فتتحقق بذلك السيطرة العامة على فئة أو فئات من كل وطن ودولة.
ولعل المتامل في واقع حياة كل أمة اليوم، يجد كثيرا من الأفكار قد دست بين دفات الفكر المستورد وكان نتاجا لهذه المدسوسات أن تملص المجتمع من أثواب كرامته بحجة التطور والرقي والتقدم، ونسينا جهلا أو تجاهلا، أننا استوردنا الغث الضحل ونسينا السمين الثمين. فنحن نقرأ اليوم في كتابات كثيرة لمثقفين نسو عمق التأمل في الفكر الذي انتهجوه، نقرأ في كتاباتهم تهجما على أوطانهم، وتهجما على عاداتهم التي افتخر بها آباؤهم وأجدادهم وزرعوها وغرسوا بذورها وصقلوها، وسقوا بدمائهم وفكرهم ينعها لتمثر ثمرا طيبا، ونسوا مرة اخرى أو تناسوا، أن لآبائهم وأجدادهم فكراً قد يكون في عمقه أأصل من فكرهم، وفي هيكله أعظم من فكرهم، (ولكنّ ما عندي أفضل مما عند سواي وأنا أعرف مالا يعرفه غيري) فاختلت مع الزهو الموازين.
لو كان لك العلم بمثل علمهم ... جاز لك الحكم بمثل حكمهم
وهنا سأروي موقفا لي مع صديق لي من أرض فارس، إذ كنا مرة نتحاور حول أمور الفتوى في الدين، وصديقي هذا طبيب، فكان يعترض على بعض أحكام المفتين بحجة عدم توالمها مع معطيات العصر ومتطلبات الحياة. فقلت له، وهذا المبدأ الذي أسير عليه، أنت طبيب، قال: نعم، قلت له: هل لو أخذت سيارتك إلى الورشة للتصليح وأخبرك الفنيون أن هناك عطلا في كهرباء السيارة، ستقول لا، كلامكم غير صحيح فأنا بحكم علمي ومعرفتي بالطب أفترض أن هناك مشكلة في محرك السيارة؟ قال: لا، فهم مختصون بالهندسة وأنا متخصص بالطب فلا يجادلوني ولا اجادلهم، فقلت: هكذا حال المفتين، هم عندما يحكمون في أمر فإنما يحكمون من علم لم نصل إليه لا أنا ولا أنت، ولكن هناك، ولأن الأمر مختص بالدين، فإن رحمة الله أوسع بالعباد فقيل في اختلاف العلماء رحمة، وقال عليه الصلاة والسلام: (استفتِ نفسك وإن أفتوك وأفتوك).
وخلاصة المثال السابق هو أننا في بعض الأحيان، وأؤكد بعض الأحيان، تأخذنا النشوة بالاحساس بالمعرفة فنستفيض في التعبير عن رأينا وكأنه ملزم لكافة البشر، ولعلي هنا وفي غير هذا مما كتبت أؤكد عندما أشير إلى فكر ما أو فكرة ما أتبناها أن أبيّن أن هذا هو رأيي المحض أو ما أؤمن به احتراما لما يؤمن به الآخرون. فعندما ننتمي إلى فكر معين، فإنني أرى وهذا رأيي المحض مرة أخرى، يتوجب علينا من مبدأ الحكمة أو طلب الحكمة، أن ننظر إلى ما نطلب في إطار وطني كي لا نلحق الضرر بما سطره آباؤنا أو أجدادنا من أمجاد وفكر وحضارة. ففي نهاية المطاف فإن ثمار ما أنجزوه وسطروه واضح للعيان، فأين ما سطرناه نحن وأنجزناه بفكرنا الذي نسعى أن نلزمه الناس ولو أدى ذلك إلى الإساءة إلى أوطاننا وتاريخنا وثقافتنا.
لقد تقَمَّصَتْ كثر من الأقلام اليوم وعلى امتداد أوطاننا العربية والإسلامية أفكارا وفكرا أجنبيا عنا سواء كان شرقيا أو غربيا بحجة التطور والانفتاح، فالتطور والانفتاح أمران مطلوبان وهما أمران قام بهما أوائلنا في صدر الأمة الاسلامية ونتج عن هذا الانفتاح والسعي إلى التطور أن ذخرت مكتباتنا بالعديد من كتب الثقافات القديمة، ولكن الفرق أن ما انتقل إلى فكرنا في ذلك الوقت كان في غالبه فكرا ثريا قاد الأمة إلى التعرف على حضارات السابقين قبلها. فالأمة الإسلامية أمة حديثة المنشأ آنذاك إذ عاش العرب قبلها حياة البساطة والبداوة فكان فضل الله أن أراد للعرب أن يقودوا العالم ولا يبقون أمة بعيدة عن الحضارة كما كانوا قبل ذلك (ومَا آتَينَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدرُسُونَهَا وَمَا أَرسَلنَا إِلَيهِم قَبلَكَ مِن نَّذِيرٍ) الآية 44 من سورة سبأ.
أما اليوم فنحن أمة جربت القيادة وصنعت التاريخ ورصعت أيامه بأنقى اللآليء والمجوهرات فمن ينكر جواهر العلم وأصوله وأساسياتها التي نقشها المسلمون نقشا في تاريخ العالم الذي لا يزال يتبعها اليوم وسيظل إلى أن تقفل صفحة هذه الحياة بأمر الله، ومن ذا الذي ينكر نظام العدالة والتكافل التي جاء بها هذا الدين. إن الأمة الإسلامية كانت أفضل مثال لبناء الوطن والانتماء إليه، فلم تكن فكرا بشريا وضع قوانينه حفنة من الرجال أو النساء، بل كان دستورا سماويا شمل الدقيق والجليل من الأمور، ولو أننا انتبهنا وتأملنا بعمق لوجدنا أن حال الأمة الإسلامية بقي بقوته حتى تعددت التوجهات الفكرية وتحول الانتماء إليها بدلا من الانتماء للأمة والوطن المسلم على امتداد رقعته. حينها وحينها فقط ضعفت الأمة وتقسمت إلى دويلات وذهبت مع الريح.
إن الانتماء للوطن أحد أسس استقرار الحياة في أي بقعة من بقاع الأرض، ففي إطار هذا الانتماء نُفعِل دور المرشحات لنقبل ما يصب في مصلحة الوطن ونتخلص من الغث الذي يضر به، فحريتنا تتنتهي حين تبدأ حرية الآخرين، وهو أمر أحسبنا جميعا نتفق فيه. فالوطن زيادة على كونه الأرض التي نعيش عليها، هو تاريخنا، وهو ثقافتنا، وهو أصولنا، وهو أعراقنا، وهو وهو أساس فكرنا، وحدوده اليوم هي حدود حركتنا، أمور أحسبنا نتفق على القبول بها. وعلى هذا، فإن الانتماء للوطن يتترجم إلى عدد من السلوكيات الفكرية اكثر منها سلوكيات فعلية إذا أن أفعالنا، فيما أحسب، أنها ترتبط باحترام الوطن لأنها من احترامنا لذواتنا ومجتمعنا.
وعلى ما سبق، فإن الانتماء للوطن يفرض علينا عددا من الأسس الواجب أخذها ليبقى انتماؤنا للوطن انعكاسا لحبنا له، ومن هذه الأسس:
- أن نحافظ على كنوز الوطن الثقافية والفكرية وتنقية الشوائب عنها بما يضمن نصاعة البقاء لثقافاتنا التي شيدها أباؤنا وأجدادنا، فالذي سطروا ما سطروه في صفحات التاريخ، يوجب الاحترام والانتماء والحفاظ على الجيد والثمين منه، أما ما تكدر مع الزمن وتبين ضحالة شأنه فهو امر منوط بنا تحسينه ولا أقول تغييره، فالتغيير قد يكون لما هو أضحل وأدنى منزلة، أما التحسين فهو المسير إلى الأفضل.
- أن ننتقي ما نجلبه إلى وططننا من ثقافات وتيارات فكرية وأفكار، فنحن مسؤولون أمام الأمة عن الذي نستورده إليها، ونحن مسؤولون أمام التاريخ عن الذي نسطره عن حياتنا ومنجزاتنا في صفحاته، ونحن مسؤولون أمام الفكر البشري العام والناس عن الذي نقود المجتمع إليه، وقبل هذا وبعده، نحن مسؤولون أمام الله عن كل سنة نسنها، فإن كانت حسنة كان لنا أجرها وأجر من عمل بها، وإن كانت سيئة كان علينا وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا.
- أن نناقش قضايا الوطن في أروقة الوطن نقاشا حضاريا راقيا، فمما لا شك فيه أن كل مجتمع بشري يكتنفه الخطأ كما يرفل في أثوابه الصواب، وإن من الحكمة أن تناقش قضايا الوطن بهدف الرقي بالوطن لا بهدف الانتقاد، وعلى النقد أن يكون ساميا في أهدافه، لا أن يكون مغرضا في مآربه، فإن مفكري الأمم ومثقفيها وعلمائها وسياسييها وأصحاب الأعمال فيها هم من يصعد بالوطن في سلّم المجد أو ينزل به فيها. وعلى هذا فإن انتقاد الوطن أمر لا يتوافق مع الانتماء كما ان الصمت مقابل الأخطاء هو امر لا يتوافق مع الانتماء أيضا. ولكن لا جرح ولا تجريح، وإنما (وَعِظهُم وَقُل لَّهُم فِى أَنفُسِهِم قَولاً بَلِيغًا) الآية 63 من سورة النساء. ولقد رأينا ولا نزال نرى ونسمع عن كثير من الدول نحّت الحوار الراقي جانبا وفاحت ريح خلافاتها، فحُلَّت برلمانات، وأُقيلَت مجالسُ، وأُزيلَت حكومات، وما كان أغنى هذه الدول عن أن تنظر بعين العقل إلى مصلحة الوطن في ظل الانتماء إليه، لتتفق جميعا على مسار مرسوم وطريق مزهر. وخلاف ذلك نجد في الأمم التي تقدمت سياساتها، أن الأمة كاملة تسير على نهج واحد مهما تغير القادة وتبدلت الحكومات، فانتقال قياداتها وتبدلت حكوماتها يتم بصورة حضارية وفي المنظور العام فإن الخلف يسير على نهج واحد مع السلف.
- أن نكتب بحبر الوطن، وننطق بلسان الوطن، ونرسم بألوان الوطن؛ فهكذا تكتمل الصورة وتتضح معالمها، وتصل الكلمات إلى القلب قبل الأذن، ويسطر التأريخ الحين من الذكر. فإن الحبر إنما يكتب ما يمليه الكاتب، واللسان ينطق بما يحس به الجنان، والفرشاة إنما تستقي من مخيلة الرسام؛ فإن كان خيالنا للوطن أحسنّا فحسُنت بذلك الصورة والكلمة والصفحة، وإن اسأنا احلولكت الصورة وتلاشت الكلمة وبهتت الصفحة. إننا حين نكتب الجملة ونرسم الصورة وننطق بالكلمة، لا نعلم من استقبل ما أرسلنا وبأي غرض وأي فهم وأي نية استقبل ما أرسلنا، وعليه فإن انتماءنا يلزمنا دراسة مدى ما نرسل قبل أن يثمر ذلك ندما على شيء قيل أو سَطرٍ كُتب.
- أن نخدم الوطن في أي موقع كنا بأن نحسن أكثر مما نسيء، ونحقق المصلحة أكثر مما نسبب الضرر، ونحمل أمانة الوطن بهمة عالية، فنخطط بوعي، وننفذ بأمانة، ونقبل النقد الواعي الذي يصب في مصلحة الوطن، لأن عدم قبوله واعيا يقود إلى أن يلزمنا قبوله غير بطرق أخرى. فإن الأقلام حين تتحدث بالحكمة مرة، تستشرف قراءة متمعنة واقعية صادقة فيما تكتب، فإذا ما قوبلت بالتكبر والزهو، أحالت مسارها إلى مسارات مهلكة فما من سلاح أمضى من القلم.
الخط يبقى زمانا بعد كاتبه ... وكاتب الخط تحت الأرض مدفون
فإن جراح اللسان وإن اشتدت وعلت فإنها تنتهي في أطول مددها بانتهاء من قالوا ومن سمعوا، وإن جراح السيوف تنتهي بذهاب من جُرحوا ومن جَرحوا، أما جراح القلم والفكر فإن لها أثرا يبقى في الأمم ما بقي الفكر واطّلع المطلعون.
- أن نجعل في حسباننا دائما أن ما نزرعه اليوم سيقطفه غدا من ياتي بعدنا، وما نسطره اليوم سينقده من خلفنا، وما نشيده اليوم ستستظل بظله الأجيال القادمة في أوطاننا، فعلينا أن نحسن التشييد، وعلينا أن نجيد الغرس، وعلينا أن ننتقي ما نسطر حتى يُحسِن من يأتي بعدنا الحكم علينا، فالتاريخ محكمة علينا أن نعد لها صحيفة مرافعتنا بصورة حسنة لتنقضي جلسة المحاكمة بسلام. فكم من اسم خلد التاريخ إنجازه وكتبت مآثره بصفحات من تبر، وكم من اسم ما زال مثالا على السواد في تاريخ الأمم والشعوب، وما أحسبني أجد مثالا أوضح لهذا عند اختلال الفكر وغلو النفس وزهو السريرة من قصة إبليس (قَالَ أَنَا خَيرٌ مِّنهُ خَلَقتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقتَهُ مِن طِينٍ) الآية 76 من سورة ص. فما من ذكر بقي كهذا وما من ذكر سيبقى
- أن ننتمي إلى أوطاننا في أعماقنا لا في نطقنا أو على صفحات كتاباتنا، فإن الانتماء إيمان بالوطن في القلب تعكسه الجوارح،
ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وإن كل وطن آمن، إنما هو خلاصة انتماء أبنائه إليه، وكل وطن قطعت شمله ويلات الفتن والمعضلات، إنما هو خلاصة انتماء أبنائه لغيره.
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة ... وأهلي وإن ظنوا علي كرام
فعندما يصل المرء إلى مرحلة الانتماء تترتب الأولويات وتتناسق المصالح لخدمة الهدف الأسمى وهو المنتمى إليه. وإن من أبرز مظاهر الانتماء الانتساب إلى المنتمى إليه. فالانتماء مراحل حاله في ذلك حال الوطنية، فكل منا ينتمي إلى قبيلة فهو ينسب إليها، وكل منا يأتي من ولاية وتشملها منطقة فهو ينسب إليها، وإطار الوطن العام هو وططنا الكبير فيكون الانتماء للوطن فنحن عمانيون وسوانا كل إلى وطنه ينتمي.
ولقد اختلت بعض جوانب الانتماء عند فئة من البشر فخرجت أطر انتمائهم من أوطانهم إلى قوميات عامة وتوجهات سياسية فنتجت نتيجة لذلك الأنظمة والمسميات فمنها القومية العربية، ومن الشيوعية ومنها الماركسية وغيرها. وهذه في واقع الأصل هي توجهات فكرية، في رأيي وهو رأيي المحض، لم تأت بجديد سوى فتح ابواب للتدخلات الخارجية في شؤون الأوطان الداخلية وعليها، ونحن اذا استقرأنا التاريخ بتمعن واهتمام، فإننا نجد أن عددا من هذه التيارات الفكرية أوجدت حروبا وصراعات ونزاعات بين العديد من الأوطان وفي داخل حدود بعض الأوطان في مسعىً للسيطرة على من سواهم ونُسِيَ في إطارها الانتماء للوطن والحفاظ على منجزاته ومقدساته.
إن الانتماء للوطن يقود الفكر إلى الارتباط بالأرض. والارتباط بالأرض أمر أكبر من التوجهات الفكرية البشرية. فالأرض منها خُلِقنا وإليها نعود ومنها نُخرَجُ تارة أخرى. والأرض هي الحصن الذي نتحصن به والمهد الذي نرتع فيه، وهي الروض النظير الذي نشرب ماءه ونستظل بظله. ونحن بانتمائنا إليه أو انتمائنا إلى توجهات فكرية أخرى نجعل هذا الروض نظرا أو نجعله قاحلا، فالانتماء، وهو رأيي المحض، يجب أن يتخطى كافة التوجهات الفكرية لتضمحل عند أعتاب الوطن.
لقد مر التاريخ الإنساني بمراحل كبيرة أحدثت تغييرا جذريا فيه، فقامت على إثر هذه الأحداث حروب قادت العالم إلى هاوية الانقسام والتشعب والتشتت. لقد كنا فيما سبق اوطانا أكبر من اليوم، وكنا أمما أكبر من اليوم وكان الانتماء حينها للوطن هو ذاته الانتماء للفكر لأن الفكر كان مرآة الوطن المنعكسة عن قيادته، ومفكريه، وعلمائه، وأعيانه، وربما كان منعكسا حتى عن البسطاء من أبنائه. فقد كنا نجد كل من انتمى إلى أمة يعرف دوره استنادا إلى منظومة الوطن أو الأمة التي ينتمي إليها، فكانت دولا عظاما. ولو تاملنا لوجدنا ان الشيوعية، على سبيل المثال، كانت تيارا فكريا مضادا للرأسمالية الطاغية، لكنها بعد ذلك اتجهت اتجاها سياسيا منحدرا كالرأسمالية، فنتج عن خلافاتها مع الرأسمالية الحرب الباردة وسباق التسلح النووي، فكانت مصالح الأوطان ضائعة في مصالح التوجهات الفكرية والسياسية التي إنما نشأت حول شخصيات معينة ذات توجهات محددة. واليوم يدفع العالم كاملا ثمن تلك التوجهات ونسيان الانتماء للوطن أمام درجات سلالمها. فبدلا من أن تقوم أمم على السلم وحب الجوار والتعاون المثمر؛ قامت بدلا من ذلك صراعات على من ينشر فكره بصورة أكبر ومن يدخل في حوزته عددا من الدول أو الدويلات أكبر. فتبلورت قضايا الحروب داخل كل وطن من الأوطان نتيجة لانقسام أهله وانتمائهم إلى توجهات فكرية مختلفة ناسين أو متناسين انتماءهم إلى أوطانهم التي عانت وقاست وذاقت ذل الحياة بأشكالها المختلفة وما لشيء إلا ليتمكن فريق من زرع فكره ونشره بين أفراد المجتمع في إطار أوسع من فكر سواه.
ولم يكن ذلك الأمر نهاية المطاف، بل انتقل ذلك إلى هدم أسوار الوطن الراسخة من الأخلاق والمبادئ والقيم والأصول والعادات والتقاليد، لتحل محلها حريات غير مقيده أذابت فئات المجتمع المختلفة في بوتقات من التشتت الفكري وهو أمر هدفت إليه العديد من التوجهات الفكرية. فمن أجل أن تبقى القيادة في القمة، كان على محركي الخيوط أن يميعوا المجتمع ويشغلونه بقضايا من الضحالة بمكان لا تسمح له بأن يتعمق في الفكر الذي ينتمي إليه أو يجري وراءه فتتحقق بذلك السيطرة العامة على فئة أو فئات من كل وطن ودولة.
ولعل المتامل في واقع حياة كل أمة اليوم، يجد كثيرا من الأفكار قد دست بين دفات الفكر المستورد وكان نتاجا لهذه المدسوسات أن تملص المجتمع من أثواب كرامته بحجة التطور والرقي والتقدم، ونسينا جهلا أو تجاهلا، أننا استوردنا الغث الضحل ونسينا السمين الثمين. فنحن نقرأ اليوم في كتابات كثيرة لمثقفين نسو عمق التأمل في الفكر الذي انتهجوه، نقرأ في كتاباتهم تهجما على أوطانهم، وتهجما على عاداتهم التي افتخر بها آباؤهم وأجدادهم وزرعوها وغرسوا بذورها وصقلوها، وسقوا بدمائهم وفكرهم ينعها لتمثر ثمرا طيبا، ونسوا مرة اخرى أو تناسوا، أن لآبائهم وأجدادهم فكراً قد يكون في عمقه أأصل من فكرهم، وفي هيكله أعظم من فكرهم، (ولكنّ ما عندي أفضل مما عند سواي وأنا أعرف مالا يعرفه غيري) فاختلت مع الزهو الموازين.
لو كان لك العلم بمثل علمهم ... جاز لك الحكم بمثل حكمهم
وهنا سأروي موقفا لي مع صديق لي من أرض فارس، إذ كنا مرة نتحاور حول أمور الفتوى في الدين، وصديقي هذا طبيب، فكان يعترض على بعض أحكام المفتين بحجة عدم توالمها مع معطيات العصر ومتطلبات الحياة. فقلت له، وهذا المبدأ الذي أسير عليه، أنت طبيب، قال: نعم، قلت له: هل لو أخذت سيارتك إلى الورشة للتصليح وأخبرك الفنيون أن هناك عطلا في كهرباء السيارة، ستقول لا، كلامكم غير صحيح فأنا بحكم علمي ومعرفتي بالطب أفترض أن هناك مشكلة في محرك السيارة؟ قال: لا، فهم مختصون بالهندسة وأنا متخصص بالطب فلا يجادلوني ولا اجادلهم، فقلت: هكذا حال المفتين، هم عندما يحكمون في أمر فإنما يحكمون من علم لم نصل إليه لا أنا ولا أنت، ولكن هناك، ولأن الأمر مختص بالدين، فإن رحمة الله أوسع بالعباد فقيل في اختلاف العلماء رحمة، وقال عليه الصلاة والسلام: (استفتِ نفسك وإن أفتوك وأفتوك).
وخلاصة المثال السابق هو أننا في بعض الأحيان، وأؤكد بعض الأحيان، تأخذنا النشوة بالاحساس بالمعرفة فنستفيض في التعبير عن رأينا وكأنه ملزم لكافة البشر، ولعلي هنا وفي غير هذا مما كتبت أؤكد عندما أشير إلى فكر ما أو فكرة ما أتبناها أن أبيّن أن هذا هو رأيي المحض أو ما أؤمن به احتراما لما يؤمن به الآخرون. فعندما ننتمي إلى فكر معين، فإنني أرى وهذا رأيي المحض مرة أخرى، يتوجب علينا من مبدأ الحكمة أو طلب الحكمة، أن ننظر إلى ما نطلب في إطار وطني كي لا نلحق الضرر بما سطره آباؤنا أو أجدادنا من أمجاد وفكر وحضارة. ففي نهاية المطاف فإن ثمار ما أنجزوه وسطروه واضح للعيان، فأين ما سطرناه نحن وأنجزناه بفكرنا الذي نسعى أن نلزمه الناس ولو أدى ذلك إلى الإساءة إلى أوطاننا وتاريخنا وثقافتنا.
لقد تقَمَّصَتْ كثر من الأقلام اليوم وعلى امتداد أوطاننا العربية والإسلامية أفكارا وفكرا أجنبيا عنا سواء كان شرقيا أو غربيا بحجة التطور والانفتاح، فالتطور والانفتاح أمران مطلوبان وهما أمران قام بهما أوائلنا في صدر الأمة الاسلامية ونتج عن هذا الانفتاح والسعي إلى التطور أن ذخرت مكتباتنا بالعديد من كتب الثقافات القديمة، ولكن الفرق أن ما انتقل إلى فكرنا في ذلك الوقت كان في غالبه فكرا ثريا قاد الأمة إلى التعرف على حضارات السابقين قبلها. فالأمة الإسلامية أمة حديثة المنشأ آنذاك إذ عاش العرب قبلها حياة البساطة والبداوة فكان فضل الله أن أراد للعرب أن يقودوا العالم ولا يبقون أمة بعيدة عن الحضارة كما كانوا قبل ذلك (ومَا آتَينَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدرُسُونَهَا وَمَا أَرسَلنَا إِلَيهِم قَبلَكَ مِن نَّذِيرٍ) الآية 44 من سورة سبأ.
أما اليوم فنحن أمة جربت القيادة وصنعت التاريخ ورصعت أيامه بأنقى اللآليء والمجوهرات فمن ينكر جواهر العلم وأصوله وأساسياتها التي نقشها المسلمون نقشا في تاريخ العالم الذي لا يزال يتبعها اليوم وسيظل إلى أن تقفل صفحة هذه الحياة بأمر الله، ومن ذا الذي ينكر نظام العدالة والتكافل التي جاء بها هذا الدين. إن الأمة الإسلامية كانت أفضل مثال لبناء الوطن والانتماء إليه، فلم تكن فكرا بشريا وضع قوانينه حفنة من الرجال أو النساء، بل كان دستورا سماويا شمل الدقيق والجليل من الأمور، ولو أننا انتبهنا وتأملنا بعمق لوجدنا أن حال الأمة الإسلامية بقي بقوته حتى تعددت التوجهات الفكرية وتحول الانتماء إليها بدلا من الانتماء للأمة والوطن المسلم على امتداد رقعته. حينها وحينها فقط ضعفت الأمة وتقسمت إلى دويلات وذهبت مع الريح.
إن الانتماء للوطن أحد أسس استقرار الحياة في أي بقعة من بقاع الأرض، ففي إطار هذا الانتماء نُفعِل دور المرشحات لنقبل ما يصب في مصلحة الوطن ونتخلص من الغث الذي يضر به، فحريتنا تتنتهي حين تبدأ حرية الآخرين، وهو أمر أحسبنا جميعا نتفق فيه. فالوطن زيادة على كونه الأرض التي نعيش عليها، هو تاريخنا، وهو ثقافتنا، وهو أصولنا، وهو أعراقنا، وهو وهو أساس فكرنا، وحدوده اليوم هي حدود حركتنا، أمور أحسبنا نتفق على القبول بها. وعلى هذا، فإن الانتماء للوطن يتترجم إلى عدد من السلوكيات الفكرية اكثر منها سلوكيات فعلية إذا أن أفعالنا، فيما أحسب، أنها ترتبط باحترام الوطن لأنها من احترامنا لذواتنا ومجتمعنا.
وعلى ما سبق، فإن الانتماء للوطن يفرض علينا عددا من الأسس الواجب أخذها ليبقى انتماؤنا للوطن انعكاسا لحبنا له، ومن هذه الأسس:
- أن نحافظ على كنوز الوطن الثقافية والفكرية وتنقية الشوائب عنها بما يضمن نصاعة البقاء لثقافاتنا التي شيدها أباؤنا وأجدادنا، فالذي سطروا ما سطروه في صفحات التاريخ، يوجب الاحترام والانتماء والحفاظ على الجيد والثمين منه، أما ما تكدر مع الزمن وتبين ضحالة شأنه فهو امر منوط بنا تحسينه ولا أقول تغييره، فالتغيير قد يكون لما هو أضحل وأدنى منزلة، أما التحسين فهو المسير إلى الأفضل.
- أن ننتقي ما نجلبه إلى وططننا من ثقافات وتيارات فكرية وأفكار، فنحن مسؤولون أمام الأمة عن الذي نستورده إليها، ونحن مسؤولون أمام التاريخ عن الذي نسطره عن حياتنا ومنجزاتنا في صفحاته، ونحن مسؤولون أمام الفكر البشري العام والناس عن الذي نقود المجتمع إليه، وقبل هذا وبعده، نحن مسؤولون أمام الله عن كل سنة نسنها، فإن كانت حسنة كان لنا أجرها وأجر من عمل بها، وإن كانت سيئة كان علينا وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا.
- أن نناقش قضايا الوطن في أروقة الوطن نقاشا حضاريا راقيا، فمما لا شك فيه أن كل مجتمع بشري يكتنفه الخطأ كما يرفل في أثوابه الصواب، وإن من الحكمة أن تناقش قضايا الوطن بهدف الرقي بالوطن لا بهدف الانتقاد، وعلى النقد أن يكون ساميا في أهدافه، لا أن يكون مغرضا في مآربه، فإن مفكري الأمم ومثقفيها وعلمائها وسياسييها وأصحاب الأعمال فيها هم من يصعد بالوطن في سلّم المجد أو ينزل به فيها. وعلى هذا فإن انتقاد الوطن أمر لا يتوافق مع الانتماء كما ان الصمت مقابل الأخطاء هو امر لا يتوافق مع الانتماء أيضا. ولكن لا جرح ولا تجريح، وإنما (وَعِظهُم وَقُل لَّهُم فِى أَنفُسِهِم قَولاً بَلِيغًا) الآية 63 من سورة النساء. ولقد رأينا ولا نزال نرى ونسمع عن كثير من الدول نحّت الحوار الراقي جانبا وفاحت ريح خلافاتها، فحُلَّت برلمانات، وأُقيلَت مجالسُ، وأُزيلَت حكومات، وما كان أغنى هذه الدول عن أن تنظر بعين العقل إلى مصلحة الوطن في ظل الانتماء إليه، لتتفق جميعا على مسار مرسوم وطريق مزهر. وخلاف ذلك نجد في الأمم التي تقدمت سياساتها، أن الأمة كاملة تسير على نهج واحد مهما تغير القادة وتبدلت الحكومات، فانتقال قياداتها وتبدلت حكوماتها يتم بصورة حضارية وفي المنظور العام فإن الخلف يسير على نهج واحد مع السلف.
- أن نكتب بحبر الوطن، وننطق بلسان الوطن، ونرسم بألوان الوطن؛ فهكذا تكتمل الصورة وتتضح معالمها، وتصل الكلمات إلى القلب قبل الأذن، ويسطر التأريخ الحين من الذكر. فإن الحبر إنما يكتب ما يمليه الكاتب، واللسان ينطق بما يحس به الجنان، والفرشاة إنما تستقي من مخيلة الرسام؛ فإن كان خيالنا للوطن أحسنّا فحسُنت بذلك الصورة والكلمة والصفحة، وإن اسأنا احلولكت الصورة وتلاشت الكلمة وبهتت الصفحة. إننا حين نكتب الجملة ونرسم الصورة وننطق بالكلمة، لا نعلم من استقبل ما أرسلنا وبأي غرض وأي فهم وأي نية استقبل ما أرسلنا، وعليه فإن انتماءنا يلزمنا دراسة مدى ما نرسل قبل أن يثمر ذلك ندما على شيء قيل أو سَطرٍ كُتب.
- أن نخدم الوطن في أي موقع كنا بأن نحسن أكثر مما نسيء، ونحقق المصلحة أكثر مما نسبب الضرر، ونحمل أمانة الوطن بهمة عالية، فنخطط بوعي، وننفذ بأمانة، ونقبل النقد الواعي الذي يصب في مصلحة الوطن، لأن عدم قبوله واعيا يقود إلى أن يلزمنا قبوله غير بطرق أخرى. فإن الأقلام حين تتحدث بالحكمة مرة، تستشرف قراءة متمعنة واقعية صادقة فيما تكتب، فإذا ما قوبلت بالتكبر والزهو، أحالت مسارها إلى مسارات مهلكة فما من سلاح أمضى من القلم.
الخط يبقى زمانا بعد كاتبه ... وكاتب الخط تحت الأرض مدفون
فإن جراح اللسان وإن اشتدت وعلت فإنها تنتهي في أطول مددها بانتهاء من قالوا ومن سمعوا، وإن جراح السيوف تنتهي بذهاب من جُرحوا ومن جَرحوا، أما جراح القلم والفكر فإن لها أثرا يبقى في الأمم ما بقي الفكر واطّلع المطلعون.
- أن نجعل في حسباننا دائما أن ما نزرعه اليوم سيقطفه غدا من ياتي بعدنا، وما نسطره اليوم سينقده من خلفنا، وما نشيده اليوم ستستظل بظله الأجيال القادمة في أوطاننا، فعلينا أن نحسن التشييد، وعلينا أن نجيد الغرس، وعلينا أن ننتقي ما نسطر حتى يُحسِن من يأتي بعدنا الحكم علينا، فالتاريخ محكمة علينا أن نعد لها صحيفة مرافعتنا بصورة حسنة لتنقضي جلسة المحاكمة بسلام. فكم من اسم خلد التاريخ إنجازه وكتبت مآثره بصفحات من تبر، وكم من اسم ما زال مثالا على السواد في تاريخ الأمم والشعوب، وما أحسبني أجد مثالا أوضح لهذا عند اختلال الفكر وغلو النفس وزهو السريرة من قصة إبليس (قَالَ أَنَا خَيرٌ مِّنهُ خَلَقتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقتَهُ مِن طِينٍ) الآية 76 من سورة ص. فما من ذكر بقي كهذا وما من ذكر سيبقى
- أن ننتمي إلى أوطاننا في أعماقنا لا في نطقنا أو على صفحات كتاباتنا، فإن الانتماء إيمان بالوطن في القلب تعكسه الجوارح،
ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وإن كل وطن آمن، إنما هو خلاصة انتماء أبنائه إليه، وكل وطن قطعت شمله ويلات الفتن والمعضلات، إنما هو خلاصة انتماء أبنائه لغيره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق