إن حجر الزاوية هنا ليس التساؤل عن كيف يحترم الوطن، بل التساؤل كيف لا يُحترم الوطن؟ فكلنا يعلم أن لكل وطن مقدسات ومنجزات وتراث وحضارة وقيم وأخلاق وعادات ومبادئ، واحترام الوطن يكون بالحفاظ على الجيد منها وتصحيح حال غير السليم منها بما يتوافق ومتطلبات العصر وتطلعات الأمة، وبما لا يتعارض مع الأسس والقواعد العامة للدين والثقافة. أما عدم احترام الوطن يكون بالإخلال بأي منها أو إهمالها وتركها بما يحقق خسارة لبعض من كنوز الوطن أو مقدساته أو منجزاته.
ولقد كان للأمة العمانية تميز منقطع النظير عن سواها باحترام تاريخها ومنجزاتها على مر العصور والأزمان فهي، ولي الفخر بانتمائي إليها، أمة التميز من قديم الدهر وحتى أحدث أحداثه. فنحن العمانيون يكفينا فخرا ما سطره أوائلنا من منجزات أزهرت بها كتب التاريخ في قديمه وحديثه، فنحن أول أمة أسلمت لدين الله دونما حرب مع بعد دارنا، وقوة اجنادنا، وتقادم امجادنا، فكان لجيفر وعبد أن توجا ذلك المجد بمجد آخر يكتبه التاريخ حتى يرث الله الأرض ومن عليها. "لو أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك ولا طردوك" أو كما قال صلى الله عليه وسلم. إنني أقرأ في قرار عبد وجيفر ابني الجلندى احتراما عظيما لوطنهما وأمتهما. فالتنازل عن الحكم العام والإنقياد تحت قيادة لا يعرفون عنها شيئا بعيدة بآلاف الأميال عن حكمهما ليس قرارا سياسيا سهل الاتخاذ، إلا أنهما من مبدأ احترام وطنهما، حسب رأيي، وجدا فيما دعيا إليه سداد الرأي فهما ملكان لا ينقصهما الملك فيبتغيانه في الدعوة الجديدة، ولا فقيران يبتغيان الغنى في الدعوة القادمة من الجزيرة، وإنما احترامهما لوطنهما وحبهما له، هو ما دعاهما إلى التفكر والتشاور في أمر الدعوة بما فيها من إصلاح وصلاح ومبادئ ورقي للإنسان قبل كل شي، فسارا في طريق الإسلام، فكان احترام الوطن دافعا على اتخاذ القرار السليم وانتهاج السياسة الحكيمة. وقد ظلت أنجم الأمة العمانية تنير غياهب التاريخ وتسطر في أحلك أيامه أرقى الأمجاد وأسطع الشموس فكان من نجومها الساطعة قيد الأرض، والصلت بن مالك، وأحمد بن سعيد، وسعيد بن سلطان وغيرهم ممكن كتب التاريخ ما أنجزوا بأحرف الذهب والنور.
ولقد سطر جلالة السلطان قابوس بن سعيد، حفظه الله، امتدادا لذلك المجد، فكان مجد عمان الحاضر وحاضرها المزهر، فقبل أربعين عاما تجلت صورة جديدة من أمثلة احترام الوطن، والحكمة في اتخاذ القرار، والرؤية السديدة للأمور. فحين أتصفح صفحات الشبكة العالمية أو اشاهد أحد المقاطع في موقع (YouTube) عن الجهود المضنية والعناء الكبير الذي قام به للم شمل الوطن وتوحيد صفه والاستماع إلى أبنائه، لا أجد كلمات تصف كل ذلك الجهد، إلا أن يكون حبا خالصا للوطن واحتراما لتاريخه وتجديدا له. فهو حب للوطن في إطاره العام واحترام للوطن في مكنونه الخاص. فنحن الذين نشأنا مع بداية هذا العهد الميمون لمسنا تغير انماط الحياة، فلا زلت أذكر بداية دراستي الإبتدائية في مدرسة فصولها الدراسية من العريش وسعف النخيل، وتطور مسيرتي حتى دخلت جامعة السلطان قابوس حيث البناء السامق والمعارف المجتمعة والحياة الراقية. هذه التجربة لم تزل محفورة في عمق نفسي وقلبي وروحي تدفعني إلى أن أجعل من احترام وطني أساسا لكل ما اقوم به لأنني عماني.
إن احترام الوطن يمهد الطريق سالكا أمام أبنائه وبناته لرفع شانه وحفظ اسمه والرقي بمكانته، واحترام العمانيين لوطنهم يحقق لهم المواطنة الوطنية التي بها يفرضون احترام العالم لهم، ومن بين ما استوقفني، ولي الفخر أني عماني مرة أخرى، ثلاثة مواقف أحدها كان موقفا معي وآخرين سمعتهما من أصحابهما. أما الموقف الذي كان معي، ففي أحدى رحلاتي من المملكة المتحدة إلى الوطن الغالي وبعد نقطة التفتيش في مطار مانشستر الدولي استوقفني أحد أفراد أمن المطار البريطاني ليتأكد مرة أخرى من وثائقي وصحة حجزي، فلما رآى أني عماني قال: "عماني، من أفضل بلد في الشرق الأوسط". فدفعني الفضول إلى سؤاله: "وكيف تعرف عمان؟" فأجاب: "لقد عملت في عمان خمسة عشر عاما، ولم أر شعبا في حسن خلق العمانيين". بعدها مضيت في طريقي رافع الرأس ولو كانت الرؤوس ترتفع زهوا وفخرا واقعا ليس احساسا فقط لما كان من شيء يصد رأسي من الارتفاع إلا عنان السماء.
أما الموقف الثاني فكان لأحد الأخوة الأعزة وشيخ جليل من أبناء عمان الذين رفعوا بإنجازهم وعلمهم اسم وطنهم وعكسوا احترامه في أطر شتى، وهو الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي، حيث كنت أستمع إليه مرة يحكي انه عندما كان يدرس الدكتوراة في بريطانيا توقف على جانب الطريق ليستدل بالخارطة إلى منطقة كان ينوي السفر إليها، ولعدم انتباهه فقد توقف في مكان يمنع الوقوف فيه، وإذا بالشرطة تقف لتحرر له مخالفة وفي حديث قصير قال له الشرطي بما معناه ولا أذكر نص الكلمات: "ما دمت عمانيا فلا بأس لأنني زرت عمان ولم أر في شعبها من يتعمد مخالفة القوانين والأنظمة". وهذا شاهد آخر على احترام الوطن وانعكاسه على احترام الآخرين له.
أما الموقف الثالث فقد كان خلال دورة الخليج التاسعة عشر وبعد ما قيل وقيل وتشجيع وتنديد وكان ختامها مسكا بأن فاز منتخبنا الوطني بكأس الخليج وحقق أمنية جماهيره فقد وردت إلى زوجتي رسالة من قريبة لها من المملكة العربية السعودية الشقيقة تقول فيها: "نبارك لكم الكأس ونبارك لكم أخلاقكم يا أهل عمان ". وخلاصة القول فإنني على قناعة تامة من أن احترامي لوطني يزرع أحترام غيري لي ولوطني، فحين أحترم انا وطني فإني أسلك الفضيل من المسالك، وأعكس قويم الأخلاق، وأتحدث بما يجلب الاحترام لوطني، وبذلك أبعد أفواه الجهلة عن الخوض في ما يخص وطني وما احسب مثالا في هذا أكثر جلاء من أن يتحدث أحد عن شعب ما فيمتدحهم أو ينتقدهم بسبب موقف واحد مع أحدأفراد ذلك الشعب. فاحترام الوطن يقضي أن نترفع عن سفاسف الأمور والمُنتَقَدُ من السلوك وأن ننهل من الأخلاق القويمة والسلوك الحسن والفكر النير فكما ينطق لسان حال كل منا عن نفسه عندما يتحدث بين أروقة وطنه، فلا شك هو ينطق باسم وطنه عندما يكون خارج وطنه أو يتحدث إلى من هم خارج وطنه.
وإن من احترام الوطن أيضا بنظري، وهو أمر مهم جدا، أن لا نغالي في الفخر بما لا فخر فيه، وأن لا ندّعي ما ليس لنا فكما يقول الشاعر:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
إن الرزانة والتواضع بما لا يلمس كرامة الإنسان من أهم مقومات احترام الوطن لأنها من مقومات احترام الفرد لذاته ومجتمعه والمجتمعات الأخرى. ولسان الإنسان هو ما ينطق بفكره وفعله وقيمته.
لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
إن احترام الوطن، زيادة على عكس الصورة الحسنة ودفع الصورة السيئة، يقتضي بجانب ذلك إلى أن نجعل المصلحة الوطنية قبل كل شي، حتى تتحقق المواطنة الوطنية، وبالتالي فعلى أولئك الذين حمّلهم الوطن مسؤوليات نحو الرقي بمستوى معيشة أبنائه وهو يرفلون في ثياب الغنى والثراء أن لا ينسوا حقيقة واقع سواهم ممن تكبلهم الديون والالتزامات. فاحترام الوطن يقضي بأن نجعل الناطقين باسم الوطن بقدر المستطاع ينطقون بالخير بما يجعلهم يعكسون من راحة بال وطمأنينة حال دون الوصول إلى الرفاهية الطاغية التي تقود الإنسان إلى البطر وكفر النعمة. وعلى أولئك الذين حملهم قائد البلاد أمانة دراسة أوضاع أبناء الوطن أن يكونوا صادقين مع أنفسهم وأبناء وطنهم فما أمكن إخفاؤه اليوم أو تحويره، لا يمكن أن يكون كذلك غدا. وعلى هذا فإنني أجد أن احترام الوطن يفرض عددا من الأمور على فئات المجتمع الثلاث التي ذكرتها آنفا وهي مسؤولي الدولة، أصحاب الأعمال، وروح الوطن النابضة من أفراد الأمة، وهذه الأمور كما أراها هي:
مسؤولي الدولة:
- القيام بمسؤوليتهم كاملة تجاه الوطن وقيادته وشعبه، فإنما هم حُمِّلوا أمانة بقدر مقامهم الذي منحتهم إياه هذه الأمانة والمسؤولية،
- وضع مصلحة الوطن وشعبه قبل أي اعتبار آخر، وهذا يتطلب دراسة مستفيضة لواقع حياة أبناء المجتمع من كافة الجوانب والعمل على الرقي بها بما يتوافق ومتطلبات الحياة وبما يتوازن مع مستويات المعيشة في الدول الشقيقة،لتقليل الفجوة ما أمكن.
- توحيد الجهود ليكتمل البناء إذ يلزم أن يكون لكل مؤسسة خططها التي تصب في إطار موحد مع المؤسسات الأخرى، فيكتمل بذلك عقد العمل الوطني وتتكامل جزئياته.
- وضع خطط واضحة للرقي بمستوى الخدمات المقدمة للمواطنين واتخاذ القرارات المناسبة لحفظ حقوق المواطنين من الزحف الخارجي. فمن أمثلة ما أقصده هنا، أنه مع حركة سوق العقار في السلطنة خلال الأعوام الماضية استقرأت عددا من الأمور منبعها الفارق الكبير في الدخول بين افراد دول الخليج، فعلى سبيل المثال، كنا نجد أن بعض أبناء دول المجلس التعاون الخليجي استطاعوا شراء أعداد هائلة من الأراضي في عمان وهو أمر لم يكن كثير من أبناء الوطن قادرين على القيام به، وهذا بالنسبة لي كان يقرع ناقوسا يسترعي الانتباه إليه.
- خص المواطنين ببعض من الخدمات أو التسهيلات في بعض الجوانب كما تقوم العديد من الدول بذلك حيث يذكي ذلك الاحساس بالوطنية والانتماء للوطن، وبالتالي يقد إلى لحفاظ على ممتلكاته ومنجزاته.
- جعل التنمية البشرية مركز الاهتمام العام للخطط وهو أمر تقوم به الحكومة، إلا أن زيادة الاهتمام به أمر ضروري حتى نصل إلى رؤية مستقبلية متوازنة تتحقق أهدافها.
أصحاب الأعمال:
إن أصحاب الأعمال هم الركيزة الثانية التي يقوم عليها المجتمع، وتسنِدُ الدّخلَ القوميَ للأمة، وبهذا فاحترام الوطن يفرض على هذه الفئة مسؤوليات كبيرة تجاه الوطن وقيادته وشعبه من أبرزها:
- المشاركة الفاعلة في تنمية المجتمع وتكملة الجهد الذي تقوم به الحكومة للتنمية البشرية. إن الدخل العام لهذه الفئة يعتمد أساسا على القوة الشرائية ومستوى السيولة المتوفرة عند فئات المجتمع العامة، ولهذا فإن المتأمل يستقرئ انخفاضا في مستوى حركة السوق داخل الوطن بسبب انخفاض الدخول من جهة ومحدودية التعداد من جهة أخرى، وهنا تكمن مسؤولية أصحاب الأعمال في المساهمة لرفع مستوى المعيشة وذلك بالمشاركة مع الحكومة للتبرع في إقامة مشاريع البنية التحتية حتى تتمكن الدولة من توجيه قدر أكبر من الأموال إلى الشعب والذي سيعود بالنفع على أصحاب الأعمال أنفسهم.
- المساهمة في توجيه الأموال إلى قطاعات تنمية وتنويع الدخل لتأسيس ديمومة واستقرار في مصادر الدخل القومي وبهذا تتنوع الأعمال وتنشط سوق العمل بما يوفر كمّاً أكبر من الوظائف للباحثين عن عمل ويسهم في رفع المستوى المعيشي للأفراد وبالتالي فإن حركة الأموال داخل البلد تكثر وتزدهر جوانب الأعمال بشكل أكبر،
- إقامة مشاريع ذات نفع عام وخدمات مجانية شكرا للوطن على ما قدمه لهؤلاء كرعاية عدد من الطلاب الموهوبين لدراسة تخصص معين، أو التكفل بإعالة عدد من الأسر ذات الدخل المنخفض الذين لا تكفيهم مخصصاتهم لعيش حياة ذات مستوى مناسب، وغيرها من الأمثلة كثير.
- المساهمة في دعم مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية التي تعمل على خدمة المجتمع في كافة القطاعات دون النظر إلى قطاع معين بذاته.
- التخفيف عن أفراد المجتمع في نسبة الفائدة سواء في أسعار المستهلكات أو سواها أو حتى أسعار الفائدة البنكية إذ أن ما يوفره المواطن في أي من هذه الجوانب سيعود لأن يغطي احتياجا آخر لذلك المواطن في جهة أخرى.
ومن المهم الإشارة إلى أن بعض المؤسسات والشركات تقوم بأدوار في هذا الإطار إلا أن هذا الأمر ليس فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن سواهم، فهو، برأيي، فرض عين على كل من يعيش في كنف وطن يحترمه.
أفراد الأمة:
تشمل هذه الفئة كل من سبق وسواهم ممن بقي، فجميعا هم روح الوطن النابضة بالحياة فيه، والسواعد التي تبنيه، وهم الأنفس التي تغذي يومه، والعقول التي ترسم غده. إن أفراد الأمة أو أفراد المجتمع أو المواطنون مهما كانت تسميتهم، هم ودون سواهم، هم المواطنون الوطنيون الذي على أكتافهم يُحملُ عرش الوطن وعليهم تتجمع المسؤوليات نحو احترام الوطن، ومن امثلة ما عليهم:
- عكس صورة الوطن داخله وخارجه بحسن الخلق، وسعة الصدر، والكلمة الطيبة. إن هذه الأخلاقيات العامة هي ما يعكسه أبناء كل وطن عن وطنهم وبها يُستدلّ على احترامهم لوطنهم من سواه. فحين يكون السلوك الحسن هو المنظر العام، والنظام والنظافة هما السمة السائدة، تنعكس صورة الوطن في أعين أبنائه وبناته ثم تمتد إلى زائريه وضيوفه. إن حُسنَ الخلق وقيِّم السلوك يبقيان الأساس الذي يفرض الاحترام بين العقلاء والنزهاء والكرام.
- الحكمة في اتخاذ القرار والأمانة في التنفيذ، فكل قرار يتخذه فرد من أفراد المجتمع هو قرار اجتماعي يمس كل شرائح المجتمع، فعلى سبيل المثال يتخذ المسؤولون القرار لينفذه المرؤسين على المراجعين، فإذا أحسن المسؤول اتخاذ القرار، وأحسن معه المرؤس التنفيذ، انعكس ذلك إيجابا على الوطن وتنعكس به صورة حسنة من السلوك العام، وعكس ذلك صحيح يقود إلى الانتقاد والنقد.
- تغليب المصلحة العامة على المصالح الفردية، وهذه من اكبر الصعوبات. إن تقديم المصلحة العامة على الخاصة أمر يصعب إلا على ذوي الانتماء الوطني الكبير أن يكونوا عليه، وهو ما أراه انعكاسا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" صدق رسول الله. فلو قام كل متخذ قرار ومنفذه بتغليب المصلحة العامة على الخاصة لكنا قاب قوسين أو أدنى من المدينة الفاضلة التي يتكامل فيها العطاء وتتوافق فيها الأهواء والآراء.
- المساهمة الفاعلة في مؤسسات المجتمع المدني العاملة على المساهمة مع الحكومة في خدمة المجتمع والرقي به ورعاية الفئات التي تحتاج العناية من أبنائه وبناته، ودفع مسيرة العمل التطوعي لأنه يغرس روح التكافل والتعاون والتساند، وقد كان لعمان في ذلك تجربتين منفردتين متميزتين مع الأنواء المناخية الاستثانئية.
- الاعتزاز بالموروث الوطني والحفاظ على سماته العامة كالزي والعادات والتقاليد التي تغرس في الأجيال القادمة قيمة الموروث من الآباء والأجداد، وبما يحقق حفظ سمات الشخصية العمانية على كافة الأصعدة، على أن يكون هذا الاعتزاز في أرجاء الوطن وخارجه ما أمكن.
- العمل على أن يكون الإخلاص لله والوطن والقيادة هو الدافع على العطاء والإنجاز، فبالإخلاص تكتمل حلقات العقد الفريد نحو احترام متكامل للوطن فتبنى اللبنة الأولى لحب الوطن نحو مواطنة وطنية.
ولقد كان للأمة العمانية تميز منقطع النظير عن سواها باحترام تاريخها ومنجزاتها على مر العصور والأزمان فهي، ولي الفخر بانتمائي إليها، أمة التميز من قديم الدهر وحتى أحدث أحداثه. فنحن العمانيون يكفينا فخرا ما سطره أوائلنا من منجزات أزهرت بها كتب التاريخ في قديمه وحديثه، فنحن أول أمة أسلمت لدين الله دونما حرب مع بعد دارنا، وقوة اجنادنا، وتقادم امجادنا، فكان لجيفر وعبد أن توجا ذلك المجد بمجد آخر يكتبه التاريخ حتى يرث الله الأرض ومن عليها. "لو أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك ولا طردوك" أو كما قال صلى الله عليه وسلم. إنني أقرأ في قرار عبد وجيفر ابني الجلندى احتراما عظيما لوطنهما وأمتهما. فالتنازل عن الحكم العام والإنقياد تحت قيادة لا يعرفون عنها شيئا بعيدة بآلاف الأميال عن حكمهما ليس قرارا سياسيا سهل الاتخاذ، إلا أنهما من مبدأ احترام وطنهما، حسب رأيي، وجدا فيما دعيا إليه سداد الرأي فهما ملكان لا ينقصهما الملك فيبتغيانه في الدعوة الجديدة، ولا فقيران يبتغيان الغنى في الدعوة القادمة من الجزيرة، وإنما احترامهما لوطنهما وحبهما له، هو ما دعاهما إلى التفكر والتشاور في أمر الدعوة بما فيها من إصلاح وصلاح ومبادئ ورقي للإنسان قبل كل شي، فسارا في طريق الإسلام، فكان احترام الوطن دافعا على اتخاذ القرار السليم وانتهاج السياسة الحكيمة. وقد ظلت أنجم الأمة العمانية تنير غياهب التاريخ وتسطر في أحلك أيامه أرقى الأمجاد وأسطع الشموس فكان من نجومها الساطعة قيد الأرض، والصلت بن مالك، وأحمد بن سعيد، وسعيد بن سلطان وغيرهم ممكن كتب التاريخ ما أنجزوا بأحرف الذهب والنور.
ولقد سطر جلالة السلطان قابوس بن سعيد، حفظه الله، امتدادا لذلك المجد، فكان مجد عمان الحاضر وحاضرها المزهر، فقبل أربعين عاما تجلت صورة جديدة من أمثلة احترام الوطن، والحكمة في اتخاذ القرار، والرؤية السديدة للأمور. فحين أتصفح صفحات الشبكة العالمية أو اشاهد أحد المقاطع في موقع (YouTube) عن الجهود المضنية والعناء الكبير الذي قام به للم شمل الوطن وتوحيد صفه والاستماع إلى أبنائه، لا أجد كلمات تصف كل ذلك الجهد، إلا أن يكون حبا خالصا للوطن واحتراما لتاريخه وتجديدا له. فهو حب للوطن في إطاره العام واحترام للوطن في مكنونه الخاص. فنحن الذين نشأنا مع بداية هذا العهد الميمون لمسنا تغير انماط الحياة، فلا زلت أذكر بداية دراستي الإبتدائية في مدرسة فصولها الدراسية من العريش وسعف النخيل، وتطور مسيرتي حتى دخلت جامعة السلطان قابوس حيث البناء السامق والمعارف المجتمعة والحياة الراقية. هذه التجربة لم تزل محفورة في عمق نفسي وقلبي وروحي تدفعني إلى أن أجعل من احترام وطني أساسا لكل ما اقوم به لأنني عماني.
إن احترام الوطن يمهد الطريق سالكا أمام أبنائه وبناته لرفع شانه وحفظ اسمه والرقي بمكانته، واحترام العمانيين لوطنهم يحقق لهم المواطنة الوطنية التي بها يفرضون احترام العالم لهم، ومن بين ما استوقفني، ولي الفخر أني عماني مرة أخرى، ثلاثة مواقف أحدها كان موقفا معي وآخرين سمعتهما من أصحابهما. أما الموقف الذي كان معي، ففي أحدى رحلاتي من المملكة المتحدة إلى الوطن الغالي وبعد نقطة التفتيش في مطار مانشستر الدولي استوقفني أحد أفراد أمن المطار البريطاني ليتأكد مرة أخرى من وثائقي وصحة حجزي، فلما رآى أني عماني قال: "عماني، من أفضل بلد في الشرق الأوسط". فدفعني الفضول إلى سؤاله: "وكيف تعرف عمان؟" فأجاب: "لقد عملت في عمان خمسة عشر عاما، ولم أر شعبا في حسن خلق العمانيين". بعدها مضيت في طريقي رافع الرأس ولو كانت الرؤوس ترتفع زهوا وفخرا واقعا ليس احساسا فقط لما كان من شيء يصد رأسي من الارتفاع إلا عنان السماء.
أما الموقف الثاني فكان لأحد الأخوة الأعزة وشيخ جليل من أبناء عمان الذين رفعوا بإنجازهم وعلمهم اسم وطنهم وعكسوا احترامه في أطر شتى، وهو الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي، حيث كنت أستمع إليه مرة يحكي انه عندما كان يدرس الدكتوراة في بريطانيا توقف على جانب الطريق ليستدل بالخارطة إلى منطقة كان ينوي السفر إليها، ولعدم انتباهه فقد توقف في مكان يمنع الوقوف فيه، وإذا بالشرطة تقف لتحرر له مخالفة وفي حديث قصير قال له الشرطي بما معناه ولا أذكر نص الكلمات: "ما دمت عمانيا فلا بأس لأنني زرت عمان ولم أر في شعبها من يتعمد مخالفة القوانين والأنظمة". وهذا شاهد آخر على احترام الوطن وانعكاسه على احترام الآخرين له.
أما الموقف الثالث فقد كان خلال دورة الخليج التاسعة عشر وبعد ما قيل وقيل وتشجيع وتنديد وكان ختامها مسكا بأن فاز منتخبنا الوطني بكأس الخليج وحقق أمنية جماهيره فقد وردت إلى زوجتي رسالة من قريبة لها من المملكة العربية السعودية الشقيقة تقول فيها: "نبارك لكم الكأس ونبارك لكم أخلاقكم يا أهل عمان ". وخلاصة القول فإنني على قناعة تامة من أن احترامي لوطني يزرع أحترام غيري لي ولوطني، فحين أحترم انا وطني فإني أسلك الفضيل من المسالك، وأعكس قويم الأخلاق، وأتحدث بما يجلب الاحترام لوطني، وبذلك أبعد أفواه الجهلة عن الخوض في ما يخص وطني وما احسب مثالا في هذا أكثر جلاء من أن يتحدث أحد عن شعب ما فيمتدحهم أو ينتقدهم بسبب موقف واحد مع أحدأفراد ذلك الشعب. فاحترام الوطن يقضي أن نترفع عن سفاسف الأمور والمُنتَقَدُ من السلوك وأن ننهل من الأخلاق القويمة والسلوك الحسن والفكر النير فكما ينطق لسان حال كل منا عن نفسه عندما يتحدث بين أروقة وطنه، فلا شك هو ينطق باسم وطنه عندما يكون خارج وطنه أو يتحدث إلى من هم خارج وطنه.
وإن من احترام الوطن أيضا بنظري، وهو أمر مهم جدا، أن لا نغالي في الفخر بما لا فخر فيه، وأن لا ندّعي ما ليس لنا فكما يقول الشاعر:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
إن الرزانة والتواضع بما لا يلمس كرامة الإنسان من أهم مقومات احترام الوطن لأنها من مقومات احترام الفرد لذاته ومجتمعه والمجتمعات الأخرى. ولسان الإنسان هو ما ينطق بفكره وفعله وقيمته.
لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
إن احترام الوطن، زيادة على عكس الصورة الحسنة ودفع الصورة السيئة، يقتضي بجانب ذلك إلى أن نجعل المصلحة الوطنية قبل كل شي، حتى تتحقق المواطنة الوطنية، وبالتالي فعلى أولئك الذين حمّلهم الوطن مسؤوليات نحو الرقي بمستوى معيشة أبنائه وهو يرفلون في ثياب الغنى والثراء أن لا ينسوا حقيقة واقع سواهم ممن تكبلهم الديون والالتزامات. فاحترام الوطن يقضي بأن نجعل الناطقين باسم الوطن بقدر المستطاع ينطقون بالخير بما يجعلهم يعكسون من راحة بال وطمأنينة حال دون الوصول إلى الرفاهية الطاغية التي تقود الإنسان إلى البطر وكفر النعمة. وعلى أولئك الذين حملهم قائد البلاد أمانة دراسة أوضاع أبناء الوطن أن يكونوا صادقين مع أنفسهم وأبناء وطنهم فما أمكن إخفاؤه اليوم أو تحويره، لا يمكن أن يكون كذلك غدا. وعلى هذا فإنني أجد أن احترام الوطن يفرض عددا من الأمور على فئات المجتمع الثلاث التي ذكرتها آنفا وهي مسؤولي الدولة، أصحاب الأعمال، وروح الوطن النابضة من أفراد الأمة، وهذه الأمور كما أراها هي:
مسؤولي الدولة:
- القيام بمسؤوليتهم كاملة تجاه الوطن وقيادته وشعبه، فإنما هم حُمِّلوا أمانة بقدر مقامهم الذي منحتهم إياه هذه الأمانة والمسؤولية،
- وضع مصلحة الوطن وشعبه قبل أي اعتبار آخر، وهذا يتطلب دراسة مستفيضة لواقع حياة أبناء المجتمع من كافة الجوانب والعمل على الرقي بها بما يتوافق ومتطلبات الحياة وبما يتوازن مع مستويات المعيشة في الدول الشقيقة،لتقليل الفجوة ما أمكن.
- توحيد الجهود ليكتمل البناء إذ يلزم أن يكون لكل مؤسسة خططها التي تصب في إطار موحد مع المؤسسات الأخرى، فيكتمل بذلك عقد العمل الوطني وتتكامل جزئياته.
- وضع خطط واضحة للرقي بمستوى الخدمات المقدمة للمواطنين واتخاذ القرارات المناسبة لحفظ حقوق المواطنين من الزحف الخارجي. فمن أمثلة ما أقصده هنا، أنه مع حركة سوق العقار في السلطنة خلال الأعوام الماضية استقرأت عددا من الأمور منبعها الفارق الكبير في الدخول بين افراد دول الخليج، فعلى سبيل المثال، كنا نجد أن بعض أبناء دول المجلس التعاون الخليجي استطاعوا شراء أعداد هائلة من الأراضي في عمان وهو أمر لم يكن كثير من أبناء الوطن قادرين على القيام به، وهذا بالنسبة لي كان يقرع ناقوسا يسترعي الانتباه إليه.
- خص المواطنين ببعض من الخدمات أو التسهيلات في بعض الجوانب كما تقوم العديد من الدول بذلك حيث يذكي ذلك الاحساس بالوطنية والانتماء للوطن، وبالتالي يقد إلى لحفاظ على ممتلكاته ومنجزاته.
- جعل التنمية البشرية مركز الاهتمام العام للخطط وهو أمر تقوم به الحكومة، إلا أن زيادة الاهتمام به أمر ضروري حتى نصل إلى رؤية مستقبلية متوازنة تتحقق أهدافها.
أصحاب الأعمال:
إن أصحاب الأعمال هم الركيزة الثانية التي يقوم عليها المجتمع، وتسنِدُ الدّخلَ القوميَ للأمة، وبهذا فاحترام الوطن يفرض على هذه الفئة مسؤوليات كبيرة تجاه الوطن وقيادته وشعبه من أبرزها:
- المشاركة الفاعلة في تنمية المجتمع وتكملة الجهد الذي تقوم به الحكومة للتنمية البشرية. إن الدخل العام لهذه الفئة يعتمد أساسا على القوة الشرائية ومستوى السيولة المتوفرة عند فئات المجتمع العامة، ولهذا فإن المتأمل يستقرئ انخفاضا في مستوى حركة السوق داخل الوطن بسبب انخفاض الدخول من جهة ومحدودية التعداد من جهة أخرى، وهنا تكمن مسؤولية أصحاب الأعمال في المساهمة لرفع مستوى المعيشة وذلك بالمشاركة مع الحكومة للتبرع في إقامة مشاريع البنية التحتية حتى تتمكن الدولة من توجيه قدر أكبر من الأموال إلى الشعب والذي سيعود بالنفع على أصحاب الأعمال أنفسهم.
- المساهمة في توجيه الأموال إلى قطاعات تنمية وتنويع الدخل لتأسيس ديمومة واستقرار في مصادر الدخل القومي وبهذا تتنوع الأعمال وتنشط سوق العمل بما يوفر كمّاً أكبر من الوظائف للباحثين عن عمل ويسهم في رفع المستوى المعيشي للأفراد وبالتالي فإن حركة الأموال داخل البلد تكثر وتزدهر جوانب الأعمال بشكل أكبر،
- إقامة مشاريع ذات نفع عام وخدمات مجانية شكرا للوطن على ما قدمه لهؤلاء كرعاية عدد من الطلاب الموهوبين لدراسة تخصص معين، أو التكفل بإعالة عدد من الأسر ذات الدخل المنخفض الذين لا تكفيهم مخصصاتهم لعيش حياة ذات مستوى مناسب، وغيرها من الأمثلة كثير.
- المساهمة في دعم مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية التي تعمل على خدمة المجتمع في كافة القطاعات دون النظر إلى قطاع معين بذاته.
- التخفيف عن أفراد المجتمع في نسبة الفائدة سواء في أسعار المستهلكات أو سواها أو حتى أسعار الفائدة البنكية إذ أن ما يوفره المواطن في أي من هذه الجوانب سيعود لأن يغطي احتياجا آخر لذلك المواطن في جهة أخرى.
ومن المهم الإشارة إلى أن بعض المؤسسات والشركات تقوم بأدوار في هذا الإطار إلا أن هذا الأمر ليس فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن سواهم، فهو، برأيي، فرض عين على كل من يعيش في كنف وطن يحترمه.
أفراد الأمة:
تشمل هذه الفئة كل من سبق وسواهم ممن بقي، فجميعا هم روح الوطن النابضة بالحياة فيه، والسواعد التي تبنيه، وهم الأنفس التي تغذي يومه، والعقول التي ترسم غده. إن أفراد الأمة أو أفراد المجتمع أو المواطنون مهما كانت تسميتهم، هم ودون سواهم، هم المواطنون الوطنيون الذي على أكتافهم يُحملُ عرش الوطن وعليهم تتجمع المسؤوليات نحو احترام الوطن، ومن امثلة ما عليهم:
- عكس صورة الوطن داخله وخارجه بحسن الخلق، وسعة الصدر، والكلمة الطيبة. إن هذه الأخلاقيات العامة هي ما يعكسه أبناء كل وطن عن وطنهم وبها يُستدلّ على احترامهم لوطنهم من سواه. فحين يكون السلوك الحسن هو المنظر العام، والنظام والنظافة هما السمة السائدة، تنعكس صورة الوطن في أعين أبنائه وبناته ثم تمتد إلى زائريه وضيوفه. إن حُسنَ الخلق وقيِّم السلوك يبقيان الأساس الذي يفرض الاحترام بين العقلاء والنزهاء والكرام.
- الحكمة في اتخاذ القرار والأمانة في التنفيذ، فكل قرار يتخذه فرد من أفراد المجتمع هو قرار اجتماعي يمس كل شرائح المجتمع، فعلى سبيل المثال يتخذ المسؤولون القرار لينفذه المرؤسين على المراجعين، فإذا أحسن المسؤول اتخاذ القرار، وأحسن معه المرؤس التنفيذ، انعكس ذلك إيجابا على الوطن وتنعكس به صورة حسنة من السلوك العام، وعكس ذلك صحيح يقود إلى الانتقاد والنقد.
- تغليب المصلحة العامة على المصالح الفردية، وهذه من اكبر الصعوبات. إن تقديم المصلحة العامة على الخاصة أمر يصعب إلا على ذوي الانتماء الوطني الكبير أن يكونوا عليه، وهو ما أراه انعكاسا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" صدق رسول الله. فلو قام كل متخذ قرار ومنفذه بتغليب المصلحة العامة على الخاصة لكنا قاب قوسين أو أدنى من المدينة الفاضلة التي يتكامل فيها العطاء وتتوافق فيها الأهواء والآراء.
- المساهمة الفاعلة في مؤسسات المجتمع المدني العاملة على المساهمة مع الحكومة في خدمة المجتمع والرقي به ورعاية الفئات التي تحتاج العناية من أبنائه وبناته، ودفع مسيرة العمل التطوعي لأنه يغرس روح التكافل والتعاون والتساند، وقد كان لعمان في ذلك تجربتين منفردتين متميزتين مع الأنواء المناخية الاستثانئية.
- الاعتزاز بالموروث الوطني والحفاظ على سماته العامة كالزي والعادات والتقاليد التي تغرس في الأجيال القادمة قيمة الموروث من الآباء والأجداد، وبما يحقق حفظ سمات الشخصية العمانية على كافة الأصعدة، على أن يكون هذا الاعتزاز في أرجاء الوطن وخارجه ما أمكن.
- العمل على أن يكون الإخلاص لله والوطن والقيادة هو الدافع على العطاء والإنجاز، فبالإخلاص تكتمل حلقات العقد الفريد نحو احترام متكامل للوطن فتبنى اللبنة الأولى لحب الوطن نحو مواطنة وطنية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق