الجمعة، 25 مايو 2012

الوطن والمواطن بين المواطنة والوطنية - (1) مقدمة

لقد ترددت كثيرا قبل الكتابة في هذا الموضوع إذ أن الكتابة فيه متشعبة الجوانب والأرجاء. فكلما رأيت أن أبدأ من زاوية ما واتتني زوايا أخرى لم أعرف من أيها أبدأ. غير أنني قررت أن أبدأ أينما حطت رحال اقلم وانبرى الحبر يسطر الكلمات فكل شي للوطن ومن الوطن وإلى الوطن.

وطني الأمجد دمتم هذه الروح فداك ... وبقلبي وكياني ترسم الروح لقاك
الوطن، ووطني ... عمـــــان .... 


 لستُ ممن يستمعون إلى المطربين والمغنين إلا أولئك الذين يتغنون في حب أوطانهم،،، عندها فقط تأسرني الكلمة قبل اللحن، والإحساس قبل الفن، والرسالة قبل الدن. إن التغني بحب الوطن مفخرة لكل من حمل بين أضلعه مشاعرا نحو وطنه، وهي إحساس يرقى بالروح دون الجسد إلى قمم أوجه السعادة والأمان والراحة. وحتى يكون هذا الإحساس رفيق كل قلب عماني وربما ليس عمانيا فقط بكل كل قلب وطني حتى خارج حدود وطنه فلكل منا وطنا يؤول إليه قلبه وإن اغترب عنه أو انقطع عن أرضه بصلته، فكما يقول الشاعر:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة .... وأهلي وإن ظنوا عليّ كرام
وخلاصة هذه المقدمة أن هذه الأطروحة تحمل في طياتها خمسا من قضايا الوطن المهمة ذات الارتباط بكل مواطن وطني، وأول هذه القضايا احترام الوطن، وثانيها الانتماء إليه، وثالثها الاعتراف بفضله، ورابعها العمل على الرقي به، وخامسها الفخر به. هذه القضايا الخمس تصب في نهاية مطافها في بوتقة واحدة هي حب الوطن، والذي بدونه لا يكون الوطن وطنا ولا المواطن مواطنا وطنيا. وقبل التعمق في قضايانا الخمس أجد نفسي ملزما بتعريف المواطنة الوطنية وإزالة الشوائب عنها.

المواطن الوطني... في قناعتي وهو أمر قد يختلف معي فيه غيري، هو أن ليس كل مواطن وطنيا. فالمواطن هو من استوطن الوطن وحطت رحاله أو رحال آبائه على أرضه، فرتع على أرضه واستنشق هواءه واستظل بسمائه وشرب من مائه وكان له فيه بيت أو مسكن، وغالب الحال أن المواطن من كان له في وطنه بيت والفرق بين البيت والمسكن كبير. فمن أساسيات التوطن الوطني أن يكون للمواطن بيت ينتمي إليه والبيت كما ورد في ثقافتنا لا يطلق على المسكن فقط بل يطلق على القبيلة أحيانا ويطلق على العشيرة أحيانا ويطلق على الفخيذة أحيانا أخرى.. وما كان هذا الإطلاق إلا انطلاقا من أن البيت ليس مقر إقامة مؤقتة فقط وإنما هو علامة تدل على القاطنين فيه والمنتمين إليه. فكثير ما سمعنا أباءنا أو أجدادنا عندما يصل إليهم قادم يسألونه من أي العرب أنت؟ فإذا كان لهم في أولئك العرب معرفة، أكملوا السؤال فمن أي بيت أنت؟ والبيت،، وهو رأيي المحض،، هو أول أساسيات المواطنة.. حيث نواة الانتماء القبلي.. ونحن في عمان قبائل شتى وأصول متباينة نرجع إلى أصول واحدة وهي العرب بمختلف تعريفاتها. فمنطلق المواطنة الوطنية تنبع بادئ ذي بدء من البيت الذي ننتمي إليه. ومعنى هذا أننا مع الانتماء إلى بيوتنا نحمل على أكتافنا همّ حفظ ذلك البيت من أن يدنس اسمه أو يساء إليه، وكلنا يرغب ان يظل اسمه نقيا معروفا بحسن الخلق وكريم الصفات، وما هذه الرغبة في واقع الأمر إلا انعكاسا لوطنيتنا الذاتية تجاه أنفسنا، فحتى من يرتكب الخطأ يرتكبه في السر حتى لا يدنس اسمه، وهو لا يدري بأنه بحفظه لاسمه يحقق مواطنة وطنية ليس لاسمه فقط بل لبيته الذي ينتمي إليه. ومن أكثر الأمثلة وضوحا أن يهب اخوة ضد اخيهم أو اختهم في أمر ما إذا ما أحسوا من جانب هذا الاخ أو هذه الأخت الخطأ. فهذا التصحيح هو تحقيق للمواطنة الوطنية للأسرة (البيت) أو ما يسمى ببيت الفلانيين. ثم تنتقل المواطنة الوطنية لتشمل فئة أكبر فتضم الانتماء للقبيلة ومن منا لا ينطق اسم قبيلته بفخر ويفتخر بكل منجز أنجزته، أو بكل دور قامت به، أو قام به أحد أفرادها، وكم من مرة افتخرنا أو سمعنا من يفخر بجد من أجداده أو امرأة قامت بعمل منفرد سجله التاريخ وإن كان تاريخا داخليا قرويا لم يسجل كتابة وإنما توارثته الأجيال.

إن هذه المواطنة الوطنية تنمو معنا مع كبر سننا واستقامة عودنا وترسم في حياتنا مساراتنا وتوجهاتنا، ومن أكثر ما ينميها سعي كبارها على غرس مبادئها بين صغارها، وحين أقول كبارها أو صغارها فإنما أعني كل ما تعنيه هذه الكلمات وما تحمله من معانٍ وإشارات، فقد يكون كبار القبيلة كبار السن فيها، وقد يكونوا شيوخها وأعيانها، وقد يكونوا المتعلمين والمثقفين فيها، وقد تكون نخبة من نسائها ممن عرف عنهن الحكمة والكلمة الصادقة المخلصة، فكبارنا في نهاية المطاف هم من يزرعون الوطنية للقبيلة في صغارنا. وإذا ما تاملنا في واقع حياتنا لوجدنا أُسراً متكاتفة متفاعلة متكاملة استطاع كبارها أن يغرسوا الوطنية في صغارها ومقابلهم نجد أُسراً تفككت وفاحت ريح نزاعاتها حين فشل كبارها في تنظيم صفهم فعكسوا صورة من الشتات في وطنيتهم لقبيلتهم انتقلت إلى صغارهم، إلا أن ينتبه بعض صغار السن وكبار الهمة فيصححون المسار. وهنا تبرز قضية هامة في التكامل بين القيادة والقبيلة لتحقيق المواطنة الوطنية للقبيلة، فنحن نرى أمثلة لقيادات قبلية تسعى للتميز عن القبيلة بزيادة الفجوة بينهم وبينها ظنا بأن تلك الفجوة تجعل من احترامهم لدى باقي القبيلة أمرا مفروضا لذلك التميز والتمايز الكبير في المستوى المعيشي بينهما، وهو أمر لا شك، وهو رأيي الشخصي، خطأ من الأصل إذ لا قيادة بدون قبيلة. وفي مقابل ذلك نجد أن بعض أفراد بعض القبائل يلتحمون وراء قيادات لقبائل أخرى غير قبائلهم حتى لا يرجعون في قراراتهم إلى قياداتهم ظنا منهم بان ذلك يقلل من قيمة قياداتهم وهم بذلك يسيؤون إلى أنفسهم فلا قبيلة ذات اعتراف ومكانة بدون قيادة من بين أبنائها، وبهذا فكلا الطرفين في حاجة إلى الآخر والانتماء الوطني للقبيلة يقتضي من القيادة بناء جسور من التواصل والتفاعل مع أبناء القبيلة كما أن على القبيلة التوحد تحت قيادتها لتكون لها هيبة ومكانة وبهذا تتحق المواطنة الوطنية للقبيلة في إطارها المحدود.

ثم بعد ذلك تتوسع القاعدة لتشمل المواطنة في إطار المنطقة. ولعلني لا أبالغ إذا قلت بأننا نعرّف بمناطقنا في إطار وطننا أكثر من أن نعرف بقبائلنا، إذ أنه كثيرا ما يتبادر إلى أذهاننا حين نلتقي شخصا أول مرة أن نتساءل من أي المناطق هو؟ ونحن في جزمنا بذلك نستدل على لكنته، ومصطلحات لغته، وسرعة نطقه وشكله وهيئته، فهذه سمات تميز هذا من ذاك استنادا إلى المنطقة لا سواها دون النظر إلى القبيلة فقد تخطينا حدودها إلى حدود وطنية أكبر. وعندما نتحدث عن العادات والتقاليد تتمايز العادات بتمايز المناطق في غالب الأحيان ولا أقول كل الأحيان، فهناك قبائل حافظت على عادتها دون النظر إلى أي منطقة نزلت وفي أرض حلت وهي قبائل توافقت وطنيتها القبلية مع إحساسها بانفرادها عن سواها من القبائل لدواعي اللغة والأصل وغيرها. وهذا الأمر لا ينقص من قدرها بل يعطي دلالة واضحة على قوة الوطنية القبلية عندما لا تندمج مع مثيلاتها من القبائل في ظروف ما وفي ظل أوضاع معينة وهي ليست محور حديثنا. بعدها نخرج إلى الوضع الأشمل والإطار الأعم وهو المواطنة للوطن وهنا تبرز علامات المواطنة الوطنية من المواطنة غير الوطنية. فما الفرق بينهما؟
 

لقد كان فيما سبق حيث لا حدود سياسية، وطنية قبلية ومواطنة وطنية للأمة فقد حمل التاريخ تقسيمات واضحة لدولة فارس والروم وممالك العرب. أما اليوم فقد تقسمت الممالك فأصبحت دولا شتى وأسماء كثيرة، وخرجت معها الحدود السياسية لكل دولة، ونشأ معها ما أجنح إلى تسميته المواطنة الوطنية والمواطنة العامة. إن الفرق الأهم بين المواطنة الوطنية والمواطنة العامة هي ان المواطنة الوطنية تتميز عن نقيضتها بأن صاحبها يحمل بين أضلاعه هم وطنه ورقيه وتقدمه حين يتقهقر الآخر إلى التقوقع الذاتي حول نفسه فلا يكون له همّ سوى تحقيق مآرب شخصية له ولأسرته وإذا امتدت أطر توجهاته فإنها تشمل خواصه المحيطين به.

 إن من يحمل بين أضلعه همّ وطنه سواء كان مواطنا بسيطا أو رجل أعمال ثريا أو سياسيا متميزا كلهم في أفق الوطن سواء، فالسياسيون يديرون الدفة، ورجال الأعمال يدعمون التقدم، والبسطاء يعملون نحو تحقيق الأهداف ليس بقراراتهم لانهم لا يمكلون القرار، وليس بأموالهم لأانهم لا يملكون الأموال، وإنما بأرواحهم لأنها ما يملكون وهي روح الوطن النابض بنهضته وتقدمه. فمن منا يستطيع أن أن ينكر أحد هذه الأداور؟ ولأجل أن تتحقق المواطنة الوطنية فإن لها متطلبات شتى تنبع جميعها من منبع واحد، هو حب الوطن بكافة متطلباته. وفي الكلمات التالية سأضع نفسي كمواطن وطني عماني محط كافة الأمثلة ومحور كل حديث وحديثي عن نفسي ينطبق على كل مواطن وطني من أي وطن كان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق