الجمعة، 25 مايو 2012

أشواق من أرض الضباب (2001)

عليك سلام الله يا مسقط الرأس
وحياك رب الكون باللطف لا البأس
وحيا بك التاريخ والعصر والذرى
وحيا ربوعا فيك ما فارقت نفسي
وحيا عهودا قد ألفنا، ومنزلا
عهدنا، ودهرا جمّع الحب باليأس
عليك سلام الله يا أرضي التي
عشقتُ، وعشتُ الدّهر يرتادها حسي
عمان وما كل البلاد عماننا
ولا كل أرض مثلها في جنا الحس
عليك سلام الله من قلب عاشق
بعيدا تولى، طالبا علية النفس
فودع خلانا ، وصحبا، أحبة
وودع شمسا ضوؤها منبع الأنس
وفارق بدرا كلما هلّ مقبلا
ترى الكون أنورا يضاء بلا شمس
تغنى به عمراً، وأسرج خيله
وساءله دهرا وفارقه أمس
تحية إخلاص وحب، ولوعة
لها في شغاف القلب سكنى بها أنسي
لعمرك ما في القلب غيرك قاطن
سوى حكمة الأقدار تسلوا بها نفسي
تحدثني نفسي بأني عائد غدا
فأسعد والذكرى تداعب بي حدسي
وأصحوا وقضبان الضباب تلفني
ويلهبني ثلج، ويغتالني نحسي
وأرفع طرفي علّ في الأفق نجمة
تبلغني طيف الأحبة والهمس
وأسرف في بحثي عن النجم علني
أوافي سهيلا كي يفارقني يأسي
وأنظر في أفق السماء فلا أرى
سوى غيمة قد سدت الأفق في عبس
فأين شموس العز في أرضنا التي
يزينها بدر الطهارة والقدس
وأين شعاع النور، والنور جنّة
يقينا مهاوي الظلم والذل والنكس
وأين صفاء النفس، والنفس عالم
عميق إذا ما شابه منطق اللبس
وأين نقاء الأفق في كل بقعة
تدنسها هذي المداخن بالرجس
فيا شمسنا الحرّى، ويا نجم ليلنا
ويا بدرنا الزاهي الموشم بالورس
أطلوا فقد طال الفراق بنا هنا
وجودوا بنور يبعث الدفء في نفسي

لوحة الغاب

كتب الثعلب يوما ..
لوحة للسالكين.
خط فيها ..
أيها العابر،
هذي حكمة للعاقلين
أسد الغاب مريض..
فليكن يومك عيد..
إنما الأعياد أفراح السنين.
واغتنم يومك قبل الغد ..
إن الغد للحامي الأمين.
حين يأتي الأسد الباسل..
يعلي راية العرش المكين.
* * *
ومضينا ...
* * *
كلما مرّ امرؤ..
حدثته النفس ..
ياللثعلب الماكر..
يبغي فتنة في العالمين.
هل علمتم ثعلبا يصدق قولا ..
أم رأيتم ثعلبا في الصالحين؟
إنما يبغي فسادا
كي يقول الأسد الحامي..
بأنّا الخائنين.
أيها القوم أشيروا..
أين منا الحالمين؟
* * *
فعوى الذئب طويلا ثم قال:
إنما هذا محال.
كيف للأمراض تولي وجهها للحاكمين؟
أسد الغاب مريض؟
أين عقل العاقلين؟
* * *
ومضى جزء النهار..
وجميع الغاب في همس حزين.
* * *
وبدى من طرف الغابة فيل..
قال: ما هذا الطنين؟
كتب الثعلب قولا ..
فاجتمعتم سائلين؟
هل سمعتم أسدا يمرض..
إني لأراكم واهمين؟
عنفوان الأسد لا تقصمه الحمى..
ولا يقربه حتى الأنين.
* * *
ومضى نصف النهار..
وجميع الغاب بين الهامسين.
* * *
وأتى نمر الغابة
يبدي رأيه للحاضرين
قال: قوموا..
وكما آباؤكم كانوا فكونوا..
إنما الأمراض للمستضعفين.
أسد الغاب مريض؟
أي جهل حل في أفهامكم؟
أين نصح الناصحين؟
* * *
ومضى جل النهار..
وجميع الغاب بين الحاضرين.
* * *
في نقاش بلغ الذروة حين
الأرنب المازح هزّ السامعين.
كسر الصمت وقال:
ليس هذا بالمحال.
كيف لا تمرض أسد؟
أم ترانا قد ألفنا العيش بين الخانعين؟
هز بالقول المكان..
ثم ساد الصمت بين الحاضرين.
فتناجوا.. أخرسوه
ثم سيروا واخلدوا للنوم
إن النوم بيت الآمنين.
* * *
ثم ساروا.. وانقضى الليل..
وكل الغاب بين النائمين.
* * *
وأطل الصبح يروي..
قصة الخوف المكين.
واتى الثعلب يمشي ..
وعلى يسراه يمشي..
سيد الغابة في خطو رزين.
سيدي ....
الكل يخشاكم.. وحسبي
أن لي شرف النصح الأمين.
كذّب الكل حديثي..
فبدى صدقي اختلاقا..
عند قوم خائفين.
قد صدقت النصح يامولاي..
إني لكم خير معين.
* * *
فأجاب الأسد الحاكم: حقاَ
أنت خير الناصحين.
* * *
ثم قال الثعلب الماكر قولا..
هدّ اركان السكون.
أيها العالم هبوا..
ليس يبني المجد قوم خانعون.
قد هجرتم منبع القوة فيكم
فغدوتم حفنة من خائفين.
ليس يخشى الموت من
في قلبه ذرة دين.

بوابة سلطنة عمان التعليمية (تعليمية أم تربوية)؟

لقد ظلت الأفكار حول بوابة سلطنة عمان التعليمية تعاني مخاضا في عقلي وتتردد تساؤلاتها كثيرا بين أروقة أفكاري، هل هدف البوابة تعليمي فقط أم أنها بوابة تربوية تسهم في دعم وتوطيد أسس التربية قبل أن تسهم في بث رسالة التعليم؟

لعلنا كلنا نسمع الشعار القائل "التربية قبل التعليم" وهو أمر نطمح إلى رؤية تحققه جميعا حيث يكون الهدف الأسمى للتربية والتعليم تنشئة جيل مزود بالقيم والأسس والأخلاق الحميدة والأسس التربوية الصحيحة قبل أن نعلمه كيف يقرأ ويكتب، فالقراءة والكتابة، في وجهة نظري، هما ما عبر عنهما الشاعر باللحم والدم في قوله:

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدم

فإذا ارتقت القيم مقامها في حياة الأبناء والبنات، وتربعت الأخلاق الحميدة على قائمة الأسس التربوية التي ينشأ عليها النشء، فإن تعليم القراءة والكتابة سيكون ايسر ما يكون، لأن الأسس المبني عليها صحيحة وتطبيق المهام العملية التعليمية يكون حينها أمرا أكثر يسرا وسهولة. ومن أقرب الأمثلة على هذا الفهم أمثلة حياتنا اليومية، فإذا التزم الطلاب والأبناء والبنات معايير الأخلاق من الاحترام والتقدير وحسن الخلق في تعاملهم مع سواهم، نتج عن ذلك احترامهم لمعلميهم، ومدارسهم، ومجتمعهم، واتصحت رؤية أهدافهم، وحكمت القيم الصحيحة سلوكياتهم، فكانت العملية التعليمية – التعلمية أيسر وأكثر فائدة، وإنما هذا ببساطة لأن الكل يكون منتبها، حاضر الذهن، مدركا للسلوك الصواب من الخطأ، واضعا أولوياته في أماكنها الصحيحة، متفهما لمعاني المستقبل المشرق والحاضر الراقي، ومتفهما ومقدرا لبذل آبائه وأمهاته ومعلميه ومعلماته وأخوته واخواته. وإن أفضل نتاج هذا الانتباه هو الاستغلال الامثل للوقت في ربوع المدرسة وبين مصادر التعلم المختلفة البشرية منها والتقنية والمعرفية وغيرها.

إن كانت البوابة التعليمية حسب معرفتي تفاعلية تهدف إلى خلق أسس للحوار بين الوزراة والمستخدمين، وكانت التربية في مفهومنا العام أشمل من التعليم والتعلم وأكثر أهمية، فإن انعكاس ذلك على مسمى البوابة لا شك سيعكس الاطار العام الذي تعمل فيه البوابة والأهداف المرجوة من وجودها إضافة والرؤية المرجو تحقيقها من خلالها.

وعلى هذا وذاك، لأن تحمل البوابة اسم "بوابة سلطنة عمان التربوية" هو في رأيي من الأهمية بمكان ومن الضرورة الملحة التي ستعكس أسس العمل التربوي للبوابة والوزارة خلال المرحلة القادمة من عملها في خدمة عمان وقيادة وشعب عمان

الوطن والمواطن بين المواطنة والوطنية (3) الانتماء للوطن

  يأتي الانتماء للوطن محورا ثانيا لحب الوطن وتحقيق المواطنة الوطنية. فبعد تحقق الاحترام للوطن والحرص على عكس صورة طيبة له سواء من خلال النظام أو السلوك أو الحديث، تأتي مرحلة الانتماء. الانتماء مرحلة ارتباط روحي بين المنتمي والمنتمى إليه. 
 بلادي وإن جارت عليّ عزيزة ... وأهلي وإن ظنوا علي كرام


فعندما يصل المرء إلى مرحلة الانتماء تترتب الأولويات وتتناسق المصالح لخدمة الهدف الأسمى وهو المنتمى إليه. وإن من أبرز مظاهر الانتماء الانتساب إلى المنتمى إليه. فالانتماء مراحل حاله في ذلك حال الوطنية، فكل منا ينتمي إلى قبيلة فهو ينسب إليها، وكل منا يأتي من ولاية وتشملها منطقة فهو ينسب إليها، وإطار الوطن العام هو وططنا الكبير فيكون الانتماء للوطن فنحن عمانيون وسوانا كل إلى وطنه ينتمي.

ولقد اختلت بعض جوانب الانتماء عند فئة من البشر فخرجت أطر انتمائهم من أوطانهم إلى قوميات عامة وتوجهات سياسية فنتجت نتيجة لذلك الأنظمة والمسميات فمنها القومية العربية، ومن الشيوعية ومنها الماركسية وغيرها. وهذه في واقع الأصل هي توجهات فكرية، في رأيي وهو رأيي المحض، لم تأت بجديد سوى فتح ابواب للتدخلات الخارجية في شؤون الأوطان الداخلية وعليها، ونحن اذا استقرأنا التاريخ بتمعن واهتمام، فإننا نجد أن عددا من هذه التيارات الفكرية أوجدت حروبا وصراعات ونزاعات بين العديد من الأوطان وفي داخل حدود بعض الأوطان في مسعىً للسيطرة على من سواهم ونُسِيَ في إطارها الانتماء للوطن والحفاظ على منجزاته ومقدساته.

إن الانتماء للوطن يقود الفكر إلى الارتباط بالأرض. والارتباط بالأرض أمر أكبر من التوجهات الفكرية البشرية. فالأرض منها خُلِقنا وإليها نعود ومنها نُخرَجُ تارة أخرى. والأرض هي الحصن الذي نتحصن به والمهد الذي نرتع فيه، وهي الروض النظير الذي نشرب ماءه ونستظل بظله. ونحن بانتمائنا إليه أو انتمائنا إلى توجهات فكرية أخرى نجعل هذا الروض نظرا أو نجعله قاحلا، فالانتماء، وهو رأيي المحض، يجب أن يتخطى كافة التوجهات الفكرية لتضمحل عند أعتاب الوطن.
 لقد مر التاريخ الإنساني بمراحل كبيرة أحدثت تغييرا جذريا فيه، فقامت على إثر هذه الأحداث حروب قادت العالم إلى هاوية الانقسام والتشعب والتشتت. لقد كنا فيما سبق اوطانا أكبر من اليوم، وكنا أمما أكبر من اليوم وكان الانتماء حينها للوطن هو ذاته الانتماء للفكر لأن الفكر كان مرآة الوطن المنعكسة عن قيادته، ومفكريه، وعلمائه، وأعيانه، وربما كان منعكسا حتى عن البسطاء من أبنائه. فقد كنا نجد كل من انتمى إلى أمة يعرف دوره استنادا إلى منظومة الوطن أو الأمة التي ينتمي إليها، فكانت دولا عظاما. ولو تاملنا لوجدنا ان الشيوعية، على سبيل المثال، كانت تيارا فكريا مضادا للرأسمالية الطاغية، لكنها بعد ذلك اتجهت اتجاها سياسيا منحدرا كالرأسمالية، فنتج عن خلافاتها مع الرأسمالية الحرب الباردة وسباق التسلح النووي، فكانت مصالح الأوطان ضائعة في مصالح التوجهات الفكرية والسياسية التي إنما نشأت حول شخصيات معينة ذات توجهات محددة. واليوم يدفع العالم كاملا ثمن تلك التوجهات ونسيان الانتماء للوطن أمام درجات سلالمها. فبدلا من أن تقوم أمم على السلم وحب الجوار والتعاون المثمر؛ قامت بدلا من ذلك صراعات على من ينشر فكره بصورة أكبر ومن يدخل في حوزته عددا من الدول أو الدويلات أكبر. فتبلورت قضايا الحروب داخل كل وطن من الأوطان نتيجة لانقسام أهله وانتمائهم إلى توجهات فكرية مختلفة ناسين أو متناسين انتماءهم إلى أوطانهم التي عانت وقاست وذاقت ذل الحياة بأشكالها المختلفة وما لشيء إلا ليتمكن فريق من زرع فكره ونشره بين أفراد المجتمع في إطار أوسع من فكر سواه.

ولم يكن ذلك الأمر نهاية المطاف، بل انتقل ذلك إلى هدم أسوار الوطن الراسخة من الأخلاق والمبادئ والقيم والأصول والعادات والتقاليد، لتحل محلها حريات غير مقيده أذابت فئات المجتمع المختلفة في بوتقات من التشتت الفكري وهو أمر هدفت إليه العديد من التوجهات الفكرية. فمن أجل أن تبقى القيادة في القمة، كان على محركي الخيوط أن يميعوا المجتمع ويشغلونه بقضايا من الضحالة بمكان لا تسمح له بأن يتعمق في الفكر الذي ينتمي إليه أو يجري وراءه فتتحقق بذلك السيطرة العامة على فئة أو فئات من كل وطن ودولة.

ولعل المتامل في واقع حياة كل أمة اليوم، يجد كثيرا من الأفكار قد دست بين دفات الفكر المستورد وكان نتاجا لهذه المدسوسات أن تملص المجتمع من أثواب كرامته بحجة التطور والرقي والتقدم، ونسينا جهلا أو تجاهلا، أننا استوردنا الغث الضحل ونسينا السمين الثمين. فنحن نقرأ اليوم في كتابات كثيرة لمثقفين نسو عمق التأمل في الفكر الذي انتهجوه، نقرأ في كتاباتهم تهجما على أوطانهم، وتهجما على عاداتهم التي افتخر بها آباؤهم وأجدادهم وزرعوها وغرسوا بذورها وصقلوها، وسقوا بدمائهم وفكرهم ينعها لتمثر ثمرا طيبا، ونسوا مرة اخرى أو تناسوا، أن لآبائهم وأجدادهم فكراً قد يكون في عمقه أأصل من فكرهم، وفي هيكله أعظم من فكرهم، (ولكنّ ما عندي أفضل مما عند سواي وأنا أعرف مالا يعرفه غيري) فاختلت مع الزهو الموازين.

لو كان لك العلم بمثل علمهم ... جاز لك الحكم بمثل حكمهم

وهنا سأروي موقفا لي مع صديق لي من أرض فارس، إذ كنا مرة نتحاور حول أمور الفتوى في الدين، وصديقي هذا طبيب، فكان يعترض على بعض أحكام المفتين بحجة عدم توالمها مع معطيات العصر ومتطلبات الحياة. فقلت له، وهذا المبدأ الذي أسير عليه، أنت طبيب، قال: نعم، قلت له: هل لو أخذت سيارتك إلى الورشة للتصليح وأخبرك الفنيون أن هناك عطلا في كهرباء السيارة، ستقول لا، كلامكم غير صحيح فأنا بحكم علمي ومعرفتي بالطب أفترض أن هناك مشكلة في محرك السيارة؟ قال: لا، فهم مختصون بالهندسة وأنا متخصص بالطب فلا يجادلوني ولا اجادلهم، فقلت: هكذا حال المفتين، هم عندما يحكمون في أمر فإنما يحكمون من علم لم نصل إليه لا أنا ولا أنت، ولكن هناك، ولأن الأمر مختص بالدين، فإن رحمة الله أوسع بالعباد فقيل في اختلاف العلماء رحمة، وقال عليه الصلاة والسلام: (استفتِ نفسك وإن أفتوك وأفتوك).

وخلاصة المثال السابق هو أننا في بعض الأحيان، وأؤكد بعض الأحيان، تأخذنا النشوة بالاحساس بالمعرفة فنستفيض في التعبير عن رأينا وكأنه ملزم لكافة البشر، ولعلي هنا وفي غير هذا مما كتبت أؤكد عندما أشير إلى فكر ما أو فكرة ما أتبناها أن أبيّن أن هذا هو رأيي المحض أو ما أؤمن به احتراما لما يؤمن به الآخرون. فعندما ننتمي إلى فكر معين، فإنني أرى وهذا رأيي المحض مرة أخرى، يتوجب علينا من مبدأ الحكمة أو طلب الحكمة، أن ننظر إلى ما نطلب في إطار وطني كي لا نلحق الضرر بما سطره آباؤنا أو أجدادنا من أمجاد وفكر وحضارة. ففي نهاية المطاف فإن ثمار ما أنجزوه وسطروه واضح للعيان، فأين ما سطرناه نحن وأنجزناه بفكرنا الذي نسعى أن نلزمه الناس ولو أدى ذلك إلى الإساءة إلى أوطاننا وتاريخنا وثقافتنا.
لقد تقَمَّصَتْ كثر من الأقلام اليوم وعلى امتداد أوطاننا العربية والإسلامية أفكارا وفكرا أجنبيا عنا سواء كان شرقيا أو غربيا بحجة التطور والانفتاح، فالتطور والانفتاح أمران مطلوبان وهما أمران قام بهما أوائلنا في صدر الأمة الاسلامية ونتج عن هذا الانفتاح والسعي إلى التطور أن ذخرت مكتباتنا بالعديد من كتب الثقافات القديمة، ولكن الفرق أن ما انتقل إلى فكرنا في ذلك الوقت كان في غالبه فكرا ثريا قاد الأمة إلى التعرف على حضارات السابقين قبلها. فالأمة الإسلامية أمة حديثة المنشأ آنذاك إذ عاش العرب قبلها حياة البساطة والبداوة فكان فضل الله أن أراد للعرب أن يقودوا العالم ولا يبقون أمة بعيدة عن الحضارة كما كانوا قبل ذلك (ومَا آتَينَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدرُسُونَهَا وَمَا أَرسَلنَا إِلَيهِم قَبلَكَ مِن نَّذِيرٍ) الآية 44 من سورة سبأ.

أما اليوم فنحن أمة جربت القيادة وصنعت التاريخ ورصعت أيامه بأنقى اللآليء والمجوهرات فمن ينكر جواهر العلم وأصوله وأساسياتها التي نقشها المسلمون نقشا في تاريخ العالم الذي لا يزال يتبعها اليوم وسيظل إلى أن تقفل صفحة هذه الحياة بأمر الله، ومن ذا الذي ينكر نظام العدالة والتكافل التي جاء بها هذا الدين. إن الأمة الإسلامية كانت أفضل مثال لبناء الوطن والانتماء إليه، فلم تكن فكرا بشريا وضع قوانينه حفنة من الرجال أو النساء، بل كان دستورا سماويا شمل الدقيق والجليل من الأمور، ولو أننا انتبهنا وتأملنا بعمق لوجدنا أن حال الأمة الإسلامية بقي بقوته حتى تعددت التوجهات الفكرية وتحول الانتماء إليها بدلا من الانتماء للأمة والوطن المسلم على امتداد رقعته. حينها وحينها فقط ضعفت الأمة وتقسمت إلى دويلات وذهبت مع الريح.

إن الانتماء للوطن أحد أسس استقرار الحياة في أي بقعة من بقاع الأرض، ففي إطار هذا الانتماء نُفعِل دور المرشحات لنقبل ما يصب في مصلحة الوطن ونتخلص من الغث الذي يضر به، فحريتنا تتنتهي حين تبدأ حرية الآخرين، وهو أمر أحسبنا جميعا نتفق فيه. فالوطن زيادة على كونه الأرض التي نعيش عليها، هو تاريخنا، وهو ثقافتنا، وهو أصولنا، وهو أعراقنا، وهو وهو أساس فكرنا، وحدوده اليوم هي حدود حركتنا، أمور أحسبنا نتفق على القبول بها. وعلى هذا، فإن الانتماء للوطن يتترجم إلى عدد من السلوكيات الفكرية اكثر منها سلوكيات فعلية إذا أن أفعالنا، فيما أحسب، أنها ترتبط باحترام الوطن لأنها من احترامنا لذواتنا ومجتمعنا.
وعلى ما سبق، فإن الانتماء للوطن يفرض علينا عددا من الأسس الواجب أخذها ليبقى انتماؤنا للوطن انعكاسا لحبنا له، ومن هذه الأسس:

- أن نحافظ على كنوز الوطن الثقافية والفكرية وتنقية الشوائب عنها بما يضمن نصاعة البقاء لثقافاتنا التي شيدها أباؤنا وأجدادنا، فالذي سطروا ما سطروه في صفحات التاريخ، يوجب الاحترام والانتماء والحفاظ على الجيد والثمين منه، أما ما تكدر مع الزمن وتبين ضحالة شأنه فهو امر منوط بنا تحسينه ولا أقول تغييره، فالتغيير قد يكون لما هو أضحل وأدنى منزلة، أما التحسين فهو المسير إلى الأفضل.

- أن ننتقي ما نجلبه إلى وططننا من ثقافات وتيارات فكرية وأفكار، فنحن مسؤولون أمام الأمة عن الذي نستورده إليها، ونحن مسؤولون أمام التاريخ عن الذي نسطره عن حياتنا ومنجزاتنا في صفحاته، ونحن مسؤولون أمام الفكر البشري العام والناس عن الذي نقود المجتمع إليه، وقبل هذا وبعده، نحن مسؤولون أمام الله عن كل سنة نسنها، فإن كانت حسنة كان لنا أجرها وأجر من عمل بها، وإن كانت سيئة كان علينا وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا.

- أن نناقش قضايا الوطن في أروقة الوطن نقاشا حضاريا راقيا، فمما لا شك فيه أن كل مجتمع بشري يكتنفه الخطأ كما يرفل في أثوابه الصواب، وإن من الحكمة أن تناقش قضايا الوطن بهدف الرقي بالوطن لا بهدف الانتقاد، وعلى النقد أن يكون ساميا في أهدافه، لا أن يكون مغرضا في مآربه، فإن مفكري الأمم ومثقفيها وعلمائها وسياسييها وأصحاب الأعمال فيها هم من يصعد بالوطن في سلّم المجد أو ينزل به فيها. وعلى هذا فإن انتقاد الوطن أمر لا يتوافق مع الانتماء كما ان الصمت مقابل الأخطاء هو امر لا يتوافق مع الانتماء أيضا. ولكن لا جرح ولا تجريح، وإنما (وَعِظهُم وَقُل لَّهُم فِى أَنفُسِهِم قَولاً بَلِيغًا) الآية 63 من سورة النساء. ولقد رأينا ولا نزال نرى ونسمع عن كثير من الدول نحّت الحوار الراقي جانبا وفاحت ريح خلافاتها، فحُلَّت برلمانات، وأُقيلَت مجالسُ، وأُزيلَت حكومات، وما كان أغنى هذه الدول عن أن تنظر بعين العقل إلى مصلحة الوطن في ظل الانتماء إليه، لتتفق جميعا على مسار مرسوم وطريق مزهر. وخلاف ذلك نجد في الأمم التي تقدمت سياساتها، أن الأمة كاملة تسير على نهج واحد مهما تغير القادة وتبدلت الحكومات، فانتقال قياداتها وتبدلت حكوماتها يتم بصورة حضارية وفي المنظور العام فإن الخلف يسير على نهج واحد مع السلف.

- أن نكتب بحبر الوطن، وننطق بلسان الوطن، ونرسم بألوان الوطن؛ فهكذا تكتمل الصورة وتتضح معالمها، وتصل الكلمات إلى القلب قبل الأذن، ويسطر التأريخ الحين من الذكر. فإن الحبر إنما يكتب ما يمليه الكاتب، واللسان ينطق بما يحس به الجنان، والفرشاة إنما تستقي من مخيلة الرسام؛ فإن كان خيالنا للوطن أحسنّا فحسُنت بذلك الصورة والكلمة والصفحة، وإن اسأنا احلولكت الصورة وتلاشت الكلمة وبهتت الصفحة. إننا حين نكتب الجملة ونرسم الصورة وننطق بالكلمة، لا نعلم من استقبل ما أرسلنا وبأي غرض وأي فهم وأي نية استقبل ما أرسلنا، وعليه فإن انتماءنا يلزمنا دراسة مدى ما نرسل قبل أن يثمر ذلك ندما على شيء قيل أو سَطرٍ كُتب.

- أن نخدم الوطن في أي موقع كنا بأن نحسن أكثر مما نسيء، ونحقق المصلحة أكثر مما نسبب الضرر، ونحمل أمانة الوطن بهمة عالية، فنخطط بوعي، وننفذ بأمانة، ونقبل النقد الواعي الذي يصب في مصلحة الوطن، لأن عدم قبوله واعيا يقود إلى أن يلزمنا قبوله غير بطرق أخرى. فإن الأقلام حين تتحدث بالحكمة مرة، تستشرف قراءة متمعنة واقعية صادقة فيما تكتب، فإذا ما قوبلت بالتكبر والزهو، أحالت مسارها إلى مسارات مهلكة فما من سلاح أمضى من القلم.

الخط يبقى زمانا بعد كاتبه ... وكاتب الخط تحت الأرض مدفون
فإن جراح اللسان وإن اشتدت وعلت فإنها تنتهي في أطول مددها بانتهاء من قالوا ومن سمعوا، وإن جراح السيوف تنتهي بذهاب من جُرحوا ومن جَرحوا، أما جراح القلم والفكر فإن لها أثرا يبقى في الأمم ما بقي الفكر واطّلع المطلعون.

- أن نجعل في حسباننا دائما أن ما نزرعه اليوم سيقطفه غدا من ياتي بعدنا، وما نسطره اليوم سينقده من خلفنا، وما نشيده اليوم ستستظل بظله الأجيال القادمة في أوطاننا، فعلينا أن نحسن التشييد، وعلينا أن نجيد الغرس، وعلينا أن ننتقي ما نسطر حتى يُحسِن من يأتي بعدنا الحكم علينا، فالتاريخ محكمة علينا أن نعد لها صحيفة مرافعتنا بصورة حسنة لتنقضي جلسة المحاكمة بسلام. فكم من اسم خلد التاريخ إنجازه وكتبت مآثره بصفحات من تبر، وكم من اسم ما زال مثالا على السواد في تاريخ الأمم والشعوب، وما أحسبني أجد مثالا أوضح لهذا عند اختلال الفكر وغلو النفس وزهو السريرة من قصة إبليس (قَالَ أَنَا خَيرٌ مِّنهُ خَلَقتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقتَهُ مِن طِينٍ) الآية 76 من سورة ص. فما من ذكر بقي كهذا وما من ذكر سيبقى

- أن ننتمي إلى أوطاننا في أعماقنا لا في نطقنا أو على صفحات كتاباتنا، فإن الانتماء إيمان بالوطن في القلب تعكسه الجوارح،

ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وإن كل وطن آمن، إنما هو خلاصة انتماء أبنائه إليه، وكل وطن قطعت شمله ويلات الفتن والمعضلات، إنما هو خلاصة انتماء أبنائه لغيره.

الوطن والمواطن بين المواطنة والوطنية (2) احترام الوطن

 إن حجر الزاوية هنا ليس التساؤل عن كيف يحترم الوطن، بل التساؤل كيف لا يُحترم الوطن؟ فكلنا يعلم أن لكل وطن مقدسات ومنجزات وتراث وحضارة وقيم وأخلاق وعادات ومبادئ، واحترام الوطن يكون بالحفاظ على الجيد منها وتصحيح حال غير السليم منها بما يتوافق ومتطلبات العصر وتطلعات الأمة، وبما لا يتعارض مع الأسس والقواعد العامة للدين والثقافة. أما عدم احترام الوطن يكون بالإخلال بأي منها أو إهمالها وتركها بما يحقق خسارة لبعض من كنوز الوطن أو مقدساته أو منجزاته.
ولقد كان للأمة العمانية تميز منقطع النظير عن سواها باحترام تاريخها ومنجزاتها على مر العصور والأزمان فهي، ولي الفخر بانتمائي إليها، أمة التميز من قديم الدهر وحتى أحدث أحداثه. فنحن العمانيون يكفينا فخرا ما سطره أوائلنا من منجزات أزهرت بها كتب التاريخ في قديمه وحديثه، فنحن أول أمة أسلمت لدين الله دونما حرب مع بعد دارنا، وقوة اجنادنا، وتقادم امجادنا، فكان لجيفر وعبد أن توجا ذلك المجد بمجد آخر يكتبه التاريخ حتى يرث الله الأرض ومن عليها. "لو أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك ولا طردوك" أو كما قال صلى الله عليه وسلم. إنني أقرأ في قرار عبد وجيفر ابني الجلندى احتراما عظيما لوطنهما وأمتهما. فالتنازل عن الحكم العام والإنقياد تحت قيادة لا يعرفون عنها شيئا بعيدة بآلاف الأميال عن حكمهما ليس قرارا سياسيا سهل الاتخاذ، إلا أنهما من مبدأ احترام وطنهما، حسب رأيي، وجدا فيما دعيا إليه سداد الرأي فهما ملكان لا ينقصهما الملك فيبتغيانه في الدعوة الجديدة، ولا فقيران يبتغيان الغنى في الدعوة القادمة من الجزيرة، وإنما احترامهما لوطنهما وحبهما له، هو ما دعاهما إلى التفكر والتشاور في أمر الدعوة بما فيها من إصلاح وصلاح ومبادئ ورقي للإنسان قبل كل شي، فسارا في طريق الإسلام، فكان احترام الوطن دافعا على اتخاذ القرار السليم وانتهاج السياسة الحكيمة. وقد ظلت أنجم الأمة العمانية تنير غياهب التاريخ وتسطر في أحلك أيامه أرقى الأمجاد وأسطع الشموس فكان من نجومها الساطعة قيد الأرض، والصلت بن مالك، وأحمد بن سعيد، وسعيد بن سلطان وغيرهم ممكن كتب التاريخ ما أنجزوا بأحرف الذهب والنور. 



ولقد سطر جلالة السلطان قابوس بن سعيد، حفظه الله، امتدادا لذلك المجد، فكان مجد عمان الحاضر وحاضرها المزهر، فقبل أربعين عاما تجلت صورة جديدة من أمثلة احترام الوطن، والحكمة في اتخاذ القرار، والرؤية السديدة للأمور. فحين أتصفح صفحات الشبكة العالمية أو اشاهد أحد المقاطع في موقع (YouTube) عن الجهود المضنية والعناء الكبير الذي قام به للم شمل الوطن وتوحيد صفه والاستماع إلى أبنائه، لا أجد كلمات تصف كل ذلك الجهد، إلا أن يكون حبا خالصا للوطن واحتراما لتاريخه وتجديدا له. فهو حب للوطن في إطاره العام واحترام للوطن في مكنونه الخاص. فنحن الذين نشأنا مع بداية هذا العهد الميمون لمسنا تغير انماط الحياة، فلا زلت أذكر بداية دراستي الإبتدائية في مدرسة فصولها الدراسية من العريش وسعف النخيل، وتطور مسيرتي حتى دخلت جامعة السلطان قابوس حيث البناء السامق والمعارف المجتمعة والحياة الراقية. هذه التجربة لم تزل محفورة في عمق نفسي وقلبي وروحي تدفعني إلى أن أجعل من احترام وطني أساسا لكل ما اقوم به لأنني عماني.

 إن احترام الوطن يمهد الطريق سالكا أمام أبنائه وبناته لرفع شانه وحفظ اسمه والرقي بمكانته، واحترام العمانيين لوطنهم يحقق لهم المواطنة الوطنية التي بها يفرضون احترام العالم لهم، ومن بين ما استوقفني، ولي الفخر أني عماني مرة أخرى، ثلاثة مواقف أحدها كان موقفا معي وآخرين سمعتهما من أصحابهما. أما الموقف الذي كان معي، ففي أحدى رحلاتي من المملكة المتحدة إلى الوطن الغالي وبعد نقطة التفتيش في مطار مانشستر الدولي استوقفني أحد أفراد أمن المطار البريطاني ليتأكد مرة أخرى من وثائقي وصحة حجزي، فلما رآى أني عماني قال: "عماني، من أفضل بلد في الشرق الأوسط". فدفعني الفضول إلى سؤاله: "وكيف تعرف عمان؟" فأجاب: "لقد عملت في عمان خمسة عشر عاما، ولم أر شعبا في حسن خلق العمانيين". بعدها مضيت في طريقي رافع الرأس ولو كانت الرؤوس ترتفع زهوا وفخرا واقعا ليس احساسا فقط لما كان من شيء يصد رأسي من الارتفاع إلا عنان السماء.

أما الموقف الثاني فكان لأحد الأخوة الأعزة وشيخ جليل من أبناء عمان الذين رفعوا بإنجازهم وعلمهم اسم وطنهم وعكسوا احترامه في أطر شتى، وهو الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي، حيث كنت أستمع إليه مرة يحكي انه عندما كان يدرس الدكتوراة في بريطانيا توقف على جانب الطريق ليستدل بالخارطة إلى منطقة كان ينوي السفر إليها، ولعدم انتباهه فقد توقف في مكان يمنع الوقوف فيه، وإذا بالشرطة تقف لتحرر له مخالفة وفي حديث قصير قال له الشرطي بما معناه ولا أذكر نص الكلمات: "ما دمت عمانيا فلا بأس لأنني زرت عمان ولم أر في شعبها من يتعمد مخالفة القوانين والأنظمة". وهذا شاهد آخر على احترام الوطن وانعكاسه على احترام الآخرين له.
أما الموقف الثالث فقد كان خلال دورة الخليج التاسعة عشر وبعد ما قيل وقيل وتشجيع وتنديد وكان ختامها مسكا بأن فاز منتخبنا الوطني بكأس الخليج وحقق أمنية جماهيره فقد وردت إلى زوجتي رسالة من قريبة لها من المملكة العربية السعودية الشقيقة تقول فيها: "نبارك لكم الكأس ونبارك لكم أخلاقكم يا أهل عمان ". وخلاصة القول فإنني على قناعة تامة من أن احترامي لوطني يزرع أحترام غيري لي ولوطني، فحين أحترم انا وطني فإني أسلك الفضيل من المسالك، وأعكس قويم الأخلاق، وأتحدث بما يجلب الاحترام لوطني، وبذلك أبعد أفواه الجهلة عن الخوض في ما يخص وطني وما احسب مثالا في هذا أكثر جلاء من أن يتحدث أحد عن شعب ما فيمتدحهم أو ينتقدهم بسبب موقف واحد مع أحدأفراد ذلك الشعب. فاحترام الوطن يقضي أن نترفع عن سفاسف الأمور والمُنتَقَدُ من السلوك وأن ننهل من الأخلاق القويمة والسلوك الحسن والفكر النير فكما ينطق لسان حال كل منا عن نفسه عندما يتحدث بين أروقة وطنه، فلا شك هو ينطق باسم وطنه عندما يكون خارج وطنه أو يتحدث إلى من هم خارج وطنه.

وإن من احترام الوطن أيضا بنظري، وهو أمر مهم جدا، أن لا نغالي في الفخر بما لا فخر فيه، وأن لا ندّعي ما ليس لنا فكما يقول الشاعر:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
إن الرزانة والتواضع بما لا يلمس كرامة الإنسان من أهم مقومات احترام الوطن لأنها من مقومات احترام الفرد لذاته ومجتمعه والمجتمعات الأخرى. ولسان الإنسان هو ما ينطق بفكره وفعله وقيمته.

لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

إن احترام الوطن، زيادة على عكس الصورة الحسنة ودفع الصورة السيئة، يقتضي بجانب ذلك إلى أن نجعل المصلحة الوطنية قبل كل شي، حتى تتحقق المواطنة الوطنية، وبالتالي فعلى أولئك الذين حمّلهم الوطن مسؤوليات نحو الرقي بمستوى معيشة أبنائه وهو يرفلون في ثياب الغنى والثراء أن لا ينسوا حقيقة واقع سواهم ممن تكبلهم الديون والالتزامات. فاحترام الوطن يقضي بأن نجعل الناطقين باسم الوطن بقدر المستطاع ينطقون بالخير بما يجعلهم يعكسون من راحة بال وطمأنينة حال دون الوصول إلى الرفاهية الطاغية التي تقود الإنسان إلى البطر وكفر النعمة. وعلى أولئك الذين حملهم قائد البلاد أمانة دراسة أوضاع أبناء الوطن أن يكونوا صادقين مع أنفسهم وأبناء وطنهم فما أمكن إخفاؤه اليوم أو تحويره، لا يمكن أن يكون كذلك غدا. وعلى هذا فإنني أجد أن احترام الوطن يفرض عددا من الأمور على فئات المجتمع الثلاث التي ذكرتها آنفا وهي مسؤولي الدولة، أصحاب الأعمال، وروح الوطن النابضة من أفراد الأمة، وهذه الأمور كما أراها هي:

مسؤولي الدولة:
- القيام بمسؤوليتهم كاملة تجاه الوطن وقيادته وشعبه، فإنما هم حُمِّلوا أمانة بقدر مقامهم الذي منحتهم إياه هذه الأمانة والمسؤولية،

- وضع مصلحة الوطن وشعبه قبل أي اعتبار آخر، وهذا يتطلب دراسة مستفيضة لواقع حياة أبناء المجتمع من كافة الجوانب والعمل على الرقي بها بما يتوافق ومتطلبات الحياة وبما يتوازن مع مستويات المعيشة في الدول الشقيقة،لتقليل الفجوة ما أمكن.

- توحيد الجهود ليكتمل البناء إذ يلزم أن يكون لكل مؤسسة خططها التي تصب في إطار موحد مع المؤسسات الأخرى، فيكتمل بذلك عقد العمل الوطني وتتكامل جزئياته.

- وضع خطط واضحة للرقي بمستوى الخدمات المقدمة للمواطنين واتخاذ القرارات المناسبة لحفظ حقوق المواطنين من الزحف الخارجي. فمن أمثلة ما أقصده هنا، أنه مع حركة سوق العقار في السلطنة خلال الأعوام الماضية استقرأت عددا من الأمور منبعها الفارق الكبير في الدخول بين افراد دول الخليج، فعلى سبيل المثال، كنا نجد أن بعض أبناء دول المجلس التعاون الخليجي استطاعوا شراء أعداد هائلة من الأراضي في عمان وهو أمر لم يكن كثير من أبناء الوطن قادرين على القيام به، وهذا بالنسبة لي كان يقرع ناقوسا يسترعي الانتباه إليه.

- خص المواطنين ببعض من الخدمات أو التسهيلات في بعض الجوانب كما تقوم العديد من الدول بذلك حيث يذكي ذلك الاحساس بالوطنية والانتماء للوطن، وبالتالي يقد إلى لحفاظ على ممتلكاته ومنجزاته.

- جعل التنمية البشرية مركز الاهتمام العام للخطط وهو أمر تقوم به الحكومة، إلا أن زيادة الاهتمام به أمر ضروري حتى نصل إلى رؤية مستقبلية متوازنة تتحقق أهدافها.

أصحاب الأعمال:
إن أصحاب الأعمال هم الركيزة الثانية التي يقوم عليها المجتمع، وتسنِدُ الدّخلَ القوميَ للأمة، وبهذا فاحترام الوطن يفرض على هذه الفئة مسؤوليات كبيرة تجاه الوطن وقيادته وشعبه من أبرزها:

- المشاركة الفاعلة في تنمية المجتمع وتكملة الجهد الذي تقوم به الحكومة للتنمية البشرية. إن الدخل العام لهذه الفئة يعتمد أساسا على القوة الشرائية ومستوى السيولة المتوفرة عند فئات المجتمع العامة، ولهذا فإن المتأمل يستقرئ انخفاضا في مستوى حركة السوق داخل الوطن بسبب انخفاض الدخول من جهة ومحدودية التعداد من جهة أخرى، وهنا تكمن مسؤولية أصحاب الأعمال في المساهمة لرفع مستوى المعيشة وذلك بالمشاركة مع الحكومة للتبرع في إقامة مشاريع البنية التحتية حتى تتمكن الدولة من توجيه قدر أكبر من الأموال إلى الشعب والذي سيعود بالنفع على أصحاب الأعمال أنفسهم.

- المساهمة في توجيه الأموال إلى قطاعات تنمية وتنويع الدخل لتأسيس ديمومة واستقرار في مصادر الدخل القومي وبهذا تتنوع الأعمال وتنشط سوق العمل بما يوفر كمّاً أكبر من الوظائف للباحثين عن عمل ويسهم في رفع المستوى المعيشي للأفراد وبالتالي فإن حركة الأموال داخل البلد تكثر وتزدهر جوانب الأعمال بشكل أكبر،
- إقامة مشاريع ذات نفع عام وخدمات مجانية شكرا للوطن على ما قدمه لهؤلاء كرعاية عدد من الطلاب الموهوبين لدراسة تخصص معين، أو التكفل بإعالة عدد من الأسر ذات الدخل المنخفض الذين لا تكفيهم مخصصاتهم لعيش حياة ذات مستوى مناسب، وغيرها من الأمثلة كثير.

- المساهمة في دعم مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية التي تعمل على خدمة المجتمع في كافة القطاعات دون النظر إلى قطاع معين بذاته.

- التخفيف عن أفراد المجتمع في نسبة الفائدة سواء في أسعار المستهلكات أو سواها أو حتى أسعار الفائدة البنكية إذ أن ما يوفره المواطن في أي من هذه الجوانب سيعود لأن يغطي احتياجا آخر لذلك المواطن في جهة أخرى.

ومن المهم الإشارة إلى أن بعض المؤسسات والشركات تقوم بأدوار في هذا الإطار إلا أن هذا الأمر ليس فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن سواهم، فهو، برأيي، فرض عين على كل من يعيش في كنف وطن يحترمه.

أفراد الأمة:
تشمل هذه الفئة كل من سبق وسواهم ممن بقي، فجميعا هم روح الوطن النابضة بالحياة فيه، والسواعد التي تبنيه، وهم الأنفس التي تغذي يومه، والعقول التي ترسم غده. إن أفراد الأمة أو أفراد المجتمع أو المواطنون مهما كانت تسميتهم، هم ودون سواهم، هم المواطنون الوطنيون الذي على أكتافهم يُحملُ عرش الوطن وعليهم تتجمع المسؤوليات نحو احترام الوطن، ومن امثلة ما عليهم:

- عكس صورة الوطن داخله وخارجه بحسن الخلق، وسعة الصدر، والكلمة الطيبة. إن هذه الأخلاقيات العامة هي ما يعكسه أبناء كل وطن عن وطنهم وبها يُستدلّ على احترامهم لوطنهم من سواه. فحين يكون السلوك الحسن هو المنظر العام، والنظام والنظافة هما السمة السائدة، تنعكس صورة الوطن في أعين أبنائه وبناته ثم تمتد إلى زائريه وضيوفه. إن حُسنَ الخلق وقيِّم السلوك يبقيان الأساس الذي يفرض الاحترام بين العقلاء والنزهاء والكرام.

- الحكمة في اتخاذ القرار والأمانة في التنفيذ، فكل قرار يتخذه فرد من أفراد المجتمع هو قرار اجتماعي يمس كل شرائح المجتمع، فعلى سبيل المثال يتخذ المسؤولون القرار لينفذه المرؤسين على المراجعين، فإذا أحسن المسؤول اتخاذ القرار، وأحسن معه المرؤس التنفيذ، انعكس ذلك إيجابا على الوطن وتنعكس به صورة حسنة من السلوك العام، وعكس ذلك صحيح يقود إلى الانتقاد والنقد.

- تغليب المصلحة العامة على المصالح الفردية، وهذه من اكبر الصعوبات. إن تقديم المصلحة العامة على الخاصة أمر يصعب إلا على ذوي الانتماء الوطني الكبير أن يكونوا عليه، وهو ما أراه انعكاسا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" صدق رسول الله. فلو قام كل متخذ قرار ومنفذه بتغليب المصلحة العامة على الخاصة لكنا قاب قوسين أو أدنى من المدينة الفاضلة التي يتكامل فيها العطاء وتتوافق فيها الأهواء والآراء.

 - المساهمة الفاعلة في مؤسسات المجتمع المدني العاملة على المساهمة مع الحكومة في خدمة المجتمع والرقي به ورعاية الفئات التي تحتاج العناية من أبنائه وبناته، ودفع مسيرة العمل التطوعي لأنه يغرس روح التكافل والتعاون والتساند، وقد كان لعمان في ذلك تجربتين منفردتين متميزتين مع الأنواء المناخية الاستثانئية.

- الاعتزاز بالموروث الوطني والحفاظ على سماته العامة كالزي والعادات والتقاليد التي تغرس في الأجيال القادمة قيمة الموروث من الآباء والأجداد، وبما يحقق حفظ سمات الشخصية العمانية على كافة الأصعدة، على أن يكون هذا الاعتزاز في أرجاء الوطن وخارجه ما أمكن.

- العمل على أن يكون الإخلاص لله والوطن والقيادة هو الدافع على العطاء والإنجاز، فبالإخلاص تكتمل حلقات العقد الفريد نحو احترام متكامل للوطن فتبنى اللبنة الأولى لحب الوطن نحو مواطنة وطنية.

الوطن والمواطن بين المواطنة والوطنية - (1) مقدمة

لقد ترددت كثيرا قبل الكتابة في هذا الموضوع إذ أن الكتابة فيه متشعبة الجوانب والأرجاء. فكلما رأيت أن أبدأ من زاوية ما واتتني زوايا أخرى لم أعرف من أيها أبدأ. غير أنني قررت أن أبدأ أينما حطت رحال اقلم وانبرى الحبر يسطر الكلمات فكل شي للوطن ومن الوطن وإلى الوطن.

وطني الأمجد دمتم هذه الروح فداك ... وبقلبي وكياني ترسم الروح لقاك
الوطن، ووطني ... عمـــــان .... 


 لستُ ممن يستمعون إلى المطربين والمغنين إلا أولئك الذين يتغنون في حب أوطانهم،،، عندها فقط تأسرني الكلمة قبل اللحن، والإحساس قبل الفن، والرسالة قبل الدن. إن التغني بحب الوطن مفخرة لكل من حمل بين أضلعه مشاعرا نحو وطنه، وهي إحساس يرقى بالروح دون الجسد إلى قمم أوجه السعادة والأمان والراحة. وحتى يكون هذا الإحساس رفيق كل قلب عماني وربما ليس عمانيا فقط بكل كل قلب وطني حتى خارج حدود وطنه فلكل منا وطنا يؤول إليه قلبه وإن اغترب عنه أو انقطع عن أرضه بصلته، فكما يقول الشاعر:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة .... وأهلي وإن ظنوا عليّ كرام
وخلاصة هذه المقدمة أن هذه الأطروحة تحمل في طياتها خمسا من قضايا الوطن المهمة ذات الارتباط بكل مواطن وطني، وأول هذه القضايا احترام الوطن، وثانيها الانتماء إليه، وثالثها الاعتراف بفضله، ورابعها العمل على الرقي به، وخامسها الفخر به. هذه القضايا الخمس تصب في نهاية مطافها في بوتقة واحدة هي حب الوطن، والذي بدونه لا يكون الوطن وطنا ولا المواطن مواطنا وطنيا. وقبل التعمق في قضايانا الخمس أجد نفسي ملزما بتعريف المواطنة الوطنية وإزالة الشوائب عنها.

المواطن الوطني... في قناعتي وهو أمر قد يختلف معي فيه غيري، هو أن ليس كل مواطن وطنيا. فالمواطن هو من استوطن الوطن وحطت رحاله أو رحال آبائه على أرضه، فرتع على أرضه واستنشق هواءه واستظل بسمائه وشرب من مائه وكان له فيه بيت أو مسكن، وغالب الحال أن المواطن من كان له في وطنه بيت والفرق بين البيت والمسكن كبير. فمن أساسيات التوطن الوطني أن يكون للمواطن بيت ينتمي إليه والبيت كما ورد في ثقافتنا لا يطلق على المسكن فقط بل يطلق على القبيلة أحيانا ويطلق على العشيرة أحيانا ويطلق على الفخيذة أحيانا أخرى.. وما كان هذا الإطلاق إلا انطلاقا من أن البيت ليس مقر إقامة مؤقتة فقط وإنما هو علامة تدل على القاطنين فيه والمنتمين إليه. فكثير ما سمعنا أباءنا أو أجدادنا عندما يصل إليهم قادم يسألونه من أي العرب أنت؟ فإذا كان لهم في أولئك العرب معرفة، أكملوا السؤال فمن أي بيت أنت؟ والبيت،، وهو رأيي المحض،، هو أول أساسيات المواطنة.. حيث نواة الانتماء القبلي.. ونحن في عمان قبائل شتى وأصول متباينة نرجع إلى أصول واحدة وهي العرب بمختلف تعريفاتها. فمنطلق المواطنة الوطنية تنبع بادئ ذي بدء من البيت الذي ننتمي إليه. ومعنى هذا أننا مع الانتماء إلى بيوتنا نحمل على أكتافنا همّ حفظ ذلك البيت من أن يدنس اسمه أو يساء إليه، وكلنا يرغب ان يظل اسمه نقيا معروفا بحسن الخلق وكريم الصفات، وما هذه الرغبة في واقع الأمر إلا انعكاسا لوطنيتنا الذاتية تجاه أنفسنا، فحتى من يرتكب الخطأ يرتكبه في السر حتى لا يدنس اسمه، وهو لا يدري بأنه بحفظه لاسمه يحقق مواطنة وطنية ليس لاسمه فقط بل لبيته الذي ينتمي إليه. ومن أكثر الأمثلة وضوحا أن يهب اخوة ضد اخيهم أو اختهم في أمر ما إذا ما أحسوا من جانب هذا الاخ أو هذه الأخت الخطأ. فهذا التصحيح هو تحقيق للمواطنة الوطنية للأسرة (البيت) أو ما يسمى ببيت الفلانيين. ثم تنتقل المواطنة الوطنية لتشمل فئة أكبر فتضم الانتماء للقبيلة ومن منا لا ينطق اسم قبيلته بفخر ويفتخر بكل منجز أنجزته، أو بكل دور قامت به، أو قام به أحد أفرادها، وكم من مرة افتخرنا أو سمعنا من يفخر بجد من أجداده أو امرأة قامت بعمل منفرد سجله التاريخ وإن كان تاريخا داخليا قرويا لم يسجل كتابة وإنما توارثته الأجيال.

إن هذه المواطنة الوطنية تنمو معنا مع كبر سننا واستقامة عودنا وترسم في حياتنا مساراتنا وتوجهاتنا، ومن أكثر ما ينميها سعي كبارها على غرس مبادئها بين صغارها، وحين أقول كبارها أو صغارها فإنما أعني كل ما تعنيه هذه الكلمات وما تحمله من معانٍ وإشارات، فقد يكون كبار القبيلة كبار السن فيها، وقد يكونوا شيوخها وأعيانها، وقد يكونوا المتعلمين والمثقفين فيها، وقد تكون نخبة من نسائها ممن عرف عنهن الحكمة والكلمة الصادقة المخلصة، فكبارنا في نهاية المطاف هم من يزرعون الوطنية للقبيلة في صغارنا. وإذا ما تاملنا في واقع حياتنا لوجدنا أُسراً متكاتفة متفاعلة متكاملة استطاع كبارها أن يغرسوا الوطنية في صغارها ومقابلهم نجد أُسراً تفككت وفاحت ريح نزاعاتها حين فشل كبارها في تنظيم صفهم فعكسوا صورة من الشتات في وطنيتهم لقبيلتهم انتقلت إلى صغارهم، إلا أن ينتبه بعض صغار السن وكبار الهمة فيصححون المسار. وهنا تبرز قضية هامة في التكامل بين القيادة والقبيلة لتحقيق المواطنة الوطنية للقبيلة، فنحن نرى أمثلة لقيادات قبلية تسعى للتميز عن القبيلة بزيادة الفجوة بينهم وبينها ظنا بأن تلك الفجوة تجعل من احترامهم لدى باقي القبيلة أمرا مفروضا لذلك التميز والتمايز الكبير في المستوى المعيشي بينهما، وهو أمر لا شك، وهو رأيي الشخصي، خطأ من الأصل إذ لا قيادة بدون قبيلة. وفي مقابل ذلك نجد أن بعض أفراد بعض القبائل يلتحمون وراء قيادات لقبائل أخرى غير قبائلهم حتى لا يرجعون في قراراتهم إلى قياداتهم ظنا منهم بان ذلك يقلل من قيمة قياداتهم وهم بذلك يسيؤون إلى أنفسهم فلا قبيلة ذات اعتراف ومكانة بدون قيادة من بين أبنائها، وبهذا فكلا الطرفين في حاجة إلى الآخر والانتماء الوطني للقبيلة يقتضي من القيادة بناء جسور من التواصل والتفاعل مع أبناء القبيلة كما أن على القبيلة التوحد تحت قيادتها لتكون لها هيبة ومكانة وبهذا تتحق المواطنة الوطنية للقبيلة في إطارها المحدود.

ثم بعد ذلك تتوسع القاعدة لتشمل المواطنة في إطار المنطقة. ولعلني لا أبالغ إذا قلت بأننا نعرّف بمناطقنا في إطار وطننا أكثر من أن نعرف بقبائلنا، إذ أنه كثيرا ما يتبادر إلى أذهاننا حين نلتقي شخصا أول مرة أن نتساءل من أي المناطق هو؟ ونحن في جزمنا بذلك نستدل على لكنته، ومصطلحات لغته، وسرعة نطقه وشكله وهيئته، فهذه سمات تميز هذا من ذاك استنادا إلى المنطقة لا سواها دون النظر إلى القبيلة فقد تخطينا حدودها إلى حدود وطنية أكبر. وعندما نتحدث عن العادات والتقاليد تتمايز العادات بتمايز المناطق في غالب الأحيان ولا أقول كل الأحيان، فهناك قبائل حافظت على عادتها دون النظر إلى أي منطقة نزلت وفي أرض حلت وهي قبائل توافقت وطنيتها القبلية مع إحساسها بانفرادها عن سواها من القبائل لدواعي اللغة والأصل وغيرها. وهذا الأمر لا ينقص من قدرها بل يعطي دلالة واضحة على قوة الوطنية القبلية عندما لا تندمج مع مثيلاتها من القبائل في ظروف ما وفي ظل أوضاع معينة وهي ليست محور حديثنا. بعدها نخرج إلى الوضع الأشمل والإطار الأعم وهو المواطنة للوطن وهنا تبرز علامات المواطنة الوطنية من المواطنة غير الوطنية. فما الفرق بينهما؟
 

لقد كان فيما سبق حيث لا حدود سياسية، وطنية قبلية ومواطنة وطنية للأمة فقد حمل التاريخ تقسيمات واضحة لدولة فارس والروم وممالك العرب. أما اليوم فقد تقسمت الممالك فأصبحت دولا شتى وأسماء كثيرة، وخرجت معها الحدود السياسية لكل دولة، ونشأ معها ما أجنح إلى تسميته المواطنة الوطنية والمواطنة العامة. إن الفرق الأهم بين المواطنة الوطنية والمواطنة العامة هي ان المواطنة الوطنية تتميز عن نقيضتها بأن صاحبها يحمل بين أضلاعه هم وطنه ورقيه وتقدمه حين يتقهقر الآخر إلى التقوقع الذاتي حول نفسه فلا يكون له همّ سوى تحقيق مآرب شخصية له ولأسرته وإذا امتدت أطر توجهاته فإنها تشمل خواصه المحيطين به.

 إن من يحمل بين أضلعه همّ وطنه سواء كان مواطنا بسيطا أو رجل أعمال ثريا أو سياسيا متميزا كلهم في أفق الوطن سواء، فالسياسيون يديرون الدفة، ورجال الأعمال يدعمون التقدم، والبسطاء يعملون نحو تحقيق الأهداف ليس بقراراتهم لانهم لا يمكلون القرار، وليس بأموالهم لأانهم لا يملكون الأموال، وإنما بأرواحهم لأنها ما يملكون وهي روح الوطن النابض بنهضته وتقدمه. فمن منا يستطيع أن أن ينكر أحد هذه الأداور؟ ولأجل أن تتحقق المواطنة الوطنية فإن لها متطلبات شتى تنبع جميعها من منبع واحد، هو حب الوطن بكافة متطلباته. وفي الكلمات التالية سأضع نفسي كمواطن وطني عماني محط كافة الأمثلة ومحور كل حديث وحديثي عن نفسي ينطبق على كل مواطن وطني من أي وطن كان.

صباحات الأمة

أيا يا صبح امتنا ...
ويا أبناء ملتنا ...
ويا نبضا به وطني ...
يعانق أفق هامتنا ...
صباح الخير من قلبي ...
الى وطني ...
إلى كل القلوب هنا...
إلى كل النفوس هناك ...
من ارض إلى أرضِ ...
ومن وطن إلى وطن...
صباح الود للصافين من ابناء جلدتنا...
سنرسم أمة فيها من ألأحلام اجملها..
ونبني كوخها طرِبا ...
يغني للسلام هنا...
ونكتب سفرها ورِقا ...
كطل الزهر ... بل كالزهر يبهجنا..
فيا يا صبح من نهوى ...
ويا ياصبح من يشقى...
ويا يا صبح من افنى...
سعادته لتحيا امة غرقى...
ويا يا نسمة الإصباح غنينا...
لحون الصبح هانئة...
فجرح الامة الثكلى...
عظيم في مرابعنا...
أيا يا صبح هاتِ الحسن في خبرٍ
وهاتِ السعد في نبأٍ
وهات البشر في كلِمٍ
وهات النظرة الحسنا عليَّ هنا..
وعانق صبح امتنا بأخبار لها وزنُ
لها وطنُ
لها أملٌ... لها فننُ
لنصبح وابتسامتنا ...
على أشفاه أمتنا ... لها ألحان عزتنا

حوارية القمر

أطلَّ من الأفــق وجـهُ القمــر
فسُرَّت به البيـدُ قبل الحضــــرْ
فأروى من النــور شطآنهـــا
...
وتاقت عيـونٌ لضـوء القمـــرْ
فقلت له : أيهــا البـــدر إني
لأَعجـبُ منك فمـاذا الخــــبرْ؟
هـلالاً ستـولدُ بدراً ستغـــدو
محـاقـا تـروح ويخفى الأثـــرْ
ومن ثَم تأتي بـوجـهٍ جــديـدٍ
بشهـرٍ جديـدٍ وطـرفٍ أَغـــرْ
أيا بـدرُ هـلاَّ أجبـتَ ســؤالي
فإني إليـكَ أطيـل النظـــــرْ؟
فقـال: تمهـل وفكِّـــر مليَّــا
تأمـل بفكــرك حــالَ البشــرْ
ستــدرك أنــي مثـال جلـي
وآية ذكـــرى لمـن يدَّكِــــرْ
فطفـلا ستولد، شـابــا ستغدو
وشيخا تــروح، ويفنى العمـــرْ
ولكـن حيـاتي تجدد دومــــا
لأبقــى أُذكِّـر من يعتـــــبرْ
تـرى النـاس ترقب دوما قدومي
كطفل وليــدٍ بهـي النظــــرْ
ومن ثم أنشـأ شــابــا قويــا
ويشـرق في الأفق وجهي الأغــرْ
ومن ثم أمسـي نحيـلا ضعيفــا
وذلك في النـاس عمـر الكـــبرْ
وإن مـا اختفيـت فإنـي أمـوت
وذاك أذان بأمــــــر القــدرْ
فقلـت : أيا بدر عشتَ طـويـلا
وأدركت حـال الألى من غـــبرْ
فحدِّثْ وأفصِــحْ فإني سأنصـتُ
طول المسـاء وحتى السحــــرْ
فقـال: رويـدا، بمــاذا أحـدث
مــاذا عســاه يكون الخبـــرْ
توارت قـرون، وجاءت قـرون،
وهذي ستمضي كمـن قد عـــبرْ
فنــوح تـولى، وموسى تـولى
وعيسى تولى، وما مـن أثــــرْ
وقارون ولـى، وفرعــون ولى
وهــامـان ولى، فأين المفـــرْ؟
جميعا سنمضي، إلى الموت نمضي
انقيادا لــرب بذاكَ أمَــــــرْ
ويبقى وحيـدا إلــهُ السمـاوات،
رب الخلائـق، رب البشـــــرْ
 

1416 هـ/ 1996م